RSS

Category Archives: مقالات

إطلالة على المستقبل

إن ما ظهر حتى الآن من بواطن حياتنا السياسية ـ من سلبياتها تحديدا ـ ليس سوى عارضا من عوارض ما كتم ـ منها ـ حتى الآن، ولسوف تشهد الفترة القادمة طفو كل ما علق في تلك الأعماق. وهذه ليست دعوة للتشاؤم، إذ ما سيطفو هو الزبد، ليذهب جفاءا أما ما ينفع الناس فسيمكث في بلدنا بإذن الله تعالى.

**************

قد علقنا مع مجلس عسكري لم يخض بعد معركته الوجودية، التي يأمل أن يكون مغنمه منها، تأمين نفسه أولا من أي ملاحقة قضائية، ربما تطارد أفراده في المستقبل، بسبب ما هو معلوم للكافة من جرائم قد ارتكبت في حق الثوار بعيد الموجة الأولى للثورة، وما هو غير معلوم للكافة ـ بعدُ ـ من فساد قد مورس ـ من قبلهم ـ طوال العهد السابق على الثورة، ثانيا المحافظة على ما تمخض عن هذا الفساد من ثروات متضخمة، بدأت تفوح روائحها العطنة عبر تقارير صحفية نشرت مؤخرا، يلي ذلك ـ في ترتيب المغانم التي يأمل المجلس أن يتحصل عليها ـ الحفاظ على وضعية المؤسسة العسكرية وامتيازاتها، كخط تأمين ثان لهؤلاء.

إذن ستكون هذه المعركة ـ وهي مرتبطة بموقعة الرئاسة لا شك ـ الأبرز والأكثر شراسة بين كل المعارك التي خاضتها الثورة طوال الفترة الماضية، لكنها لن تكون الأخيرة. ستكون الفاصلة ـ نظريا ـ بين عصر وآخر، لكن ليس بالضرورة أن تعقد قطيعة مع العهد الذي نأمل أن يبيد.

****************

وقد ابتلانا القدر بنخبة لم تستحق القيادة يوما، وإن رفعت لواءها طويلا. جل هم أفرادها تسويق ذواتهم المتضخمة على حساب أفكارهم ورؤاهم الضامرة. لم يملكوا يوما سوى أقلاما تنفيسية، وألسنة “حنجورية” يلوونها بأحاديث فارغة أو يتبارزون بها على “المصاطب الفضائية” (برامج التوك شو)، وإزاحتهم عن مواقع القيادة هي معركة مؤجلة.

****************

وقد شاءت عبقرية رجل تخليق جماعة هي عند أبناءها الوطن. فهذا المفهوم؛ مفهوم الوطن لا وجود له في أدبياتها، وبديله، مفهوم “الأمة”، غير متعين على أرض الواقع، لذا فالجماعة هي الأمة والوطن معا، وويل لنا إذا ما اشتبكت ـ مجددا ـ مصلحة الجماعة ـ بحجمها الكبير الذي هي عليه اليوم ـ مع مصلحة الوطن! (لعل اللحظة النماذجية لهذا الاشتباك بين المصلحتين قد وقعت أثناء الموجة الأولى للثورة، وتمثلت في الصفقة التي عقدت مع عمر سليمان ـ وأزاح الستار عنها عديدون، منهم القيادي السابق بالجماعة م.هيثم أبو خليل ـ وحاول الإخوان إتمامها عن طريق إخلاء الميدان من عناصرهم، غير أن المولى المقتدر الرحيم قد سلم)، وأشك أن قياداتها لن يهدأ لها بال إلا بعد أن تُلبس الوطن لباس الجماعة الضيق، أو يتمزق، ليذهب ريحها إلى الأبد. .

 *****************

وقد تراصت عقول قاصرة جامدة لتشكل تيار سلفي ألقى بظله المستطيل على الساحة السياسية. ولجها ـ مؤخرا ـ برؤى ومقولات ومصطلحات وفقه و زي ينتمي إلى الماضوية، وهذه الماضوية ستُقبل ـ حتما ـ على خوض معركة مع الحاضر والمستقبل، وهي في اعتقادي لن تكون معركة عنيفة، إذ لن تعدو كونها مناوشات و شد وجذب، شد ـ للوطن ـ من قبل هؤلاء إلى ماضويتهم، وجذب ـ للوطن ـ من قبل التيار الرئيسي بالمجتمع إلى المعاصرة، وستقل حدة وعنف الشد والجذب بالموازاة مع زيادة فاعلية التيار الرئيسي في الحياة السياسية.

لهذا كله أقول أن ما ظهر حتى الآن من بواطن حياتنا السياسية ليس.سوى عارضا من عوارض ما كتم ـ منها ـ حتى الآن.

 
أضف تعليق

Posted by في ماي 11, 2012 بوصة مقالات

 

ثقافة مريعة

من يزرع الخير يحصد الخير”، “الحق ينتصر ولو بعد حين”، “الصدق ينجي من المهالك والكذب يفضي إليها”، أي بهائم قد تلملم مثل هذه الفضلات لتتغذى عليها!، وأي جرم قد يقترفه مجتمع في حق ناشئته بنشر هذه الجراثيم لتفسد عقولها، فتبقى أبد الدهر عليلة!.

إن مثل هذه….ماذا يسمونها؟! حكم!!، إن مثل هذه القاذورات قد علقت بتجاويف عقول الكثيرين، فهي حاضرة ـ دوما ـ وإن لم ترددها الألسنة. ومثلها كثير، لكن ذاكرتي لم تسعفني إلا بما ذكرت، فقد تعودت ـ دون إذن مني ـ أن تقذف بهذه الجيف سريعا، عند سماعها لأول مرة.

قد صكها جد خرف من أجدادنا، لتتناقلها الببغاوات، فتشيع وتدون، وتخمرها القرون، لتسكر من يرتشفها تلك السكرة التي يغفل معها العقل، فتنسل إلى تلافيفه المظلمة لتعمل عملها السري هناك.

وهل لو كانت زراعة الخير تستلزم حصاده لغفل عنها الوصوليون؟! بل لبذروا ما تسنى لهم من حبه ليحصدوا ثمرته الموعودة تلك دون غيرهم، وللزموا سبيل الحق ـ لا يحيدون عنه ـ هذا الذي ينتصر بعد حين!، وكأنها مسألة حتمية الحدوث!، وما علينا إلا أن ننتظر قليلا أو طويلا حتى ينجز انتصاره ذاك!. وعلى درب الأولى تزحف المقولة الثالثة؛ درب النفعية المقيتة المقنعة بقناع أخلاقي.

و خطورة هذه الآفات الكبرى تكمن في انسلالها إلى الوجدان، لتنحر الإيمان، فيموت موتا خلويا، ولا يستتبع ذلك رد فعل؛ فالفعل غير مرئي، إذ يقع في بقعة مظلمة داخل النفس الإنسانية، تسمى اللاوعي.

وهنا يحيا الفرد حياة المسوخ، فلا هو كافر يقول ما يعتقد، ولا هو مؤمن يعتقد فيما يقول ويفعل. هنا يحيا المشوه المسكين بطفح التناقض بعد أن هدمت تلك الجراثيم مناعته ليفترس إيمانه الواقع المدنس.

إنها كارثة لو تعقلون!، مقولات كهذه وهي بالمئات شكلت ثقافة منقوعة بأكملها في مستنقع الإدعاء الكاذب، تصر على تجاهل الكيفية التي ينزع إليها الواقع في عمله، طمعا في دفع الناس إلى التزام مكارم الأخلاق!. ضرب من الخطل بل هو إلى الجنون أقرب!.  جنون من ذلك النوع الذي يلم بأحدهم؛ قد أحس البرد القارص، فألقى بنفسه في النيران، ليستدفأ!!.

أعلم أن كلماتي قاسية جارحة، لكن في الجرح ـ أيضا ـ تكمن الحكمة الشافية.

وإلى تلك العقول التي تأبى الدسم، لتزدرد كل ما هو خفيف يصادفها أقول:

“ابذل الخير للناس كما لو كنت شمسا لا تعرف الكسوف”، “الحق ترفعه اليد القوية إلى عليين وتسقطه اليد المرتعشة الضعيفة إلى أسفل سافلين”، “الصدق يطهر الروح، والكذب يدنسها حتى العفن”، لتنسجوا على منوالها، بخيوط رفيعة.

 
أضف تعليق

Posted by في مارس 1, 2012 بوصة مقالات

 

نحو “إسلامية تقدمية”(2) ـ إضاءات


مدرسة تطاولت قامات رموزها فبلغت مسارح النجوم، زرعوا بأفكارهم ورؤاهم كل نبت قد ينبت أسمى ما تصبو إليه مجتمعاتنا، لكن الاستبداد بأنظمته ـ عبر العصور ـ أبى إلا أن يئد تلك الأفكار والرؤى، فلا يُسمع لها غير صوت هامس، لا ينفذ إلا لأشد الأسماع انتباها. وفي المقابل أتاحت تلك الأنظمة للإسلامية التقليدية أن ترعد أفكارها في سماء بلادنا، حتى كادت تصم آذان الناس، فلا يسمعوا صوتا لغيرها، وما استتبع إرعادها ذاك شئ من خير ـ كثير أم قليل ـ يهبط إلى مجتمعاتنا فتغنى به عما سواه.

نعم هذه مدرسة رغم سموق قامات روادها، ورغم تفردهم بين نظرائهم، كلٌ في العصر الذي كانت به حياته، غير أن آرائهم قبرت ـ على الدوام ـ فلم يتردد صداها في حياة الناس، باستثناء الفترات التي قدر لأحدهم أن يحوز سلطان تنفذ به آرائه إلى أرض الواقع، ونادرا ما كان يثقل القدر كاهل أحدهم بشئ من سلطان، إلا على أتباعهم ومريديهم الذين آمنوا بما بعثوا به وصدقوه، ثم لم يألوا جهدا في نشره بين الناس.

ومن بين هذه الندرة التي ملكت السلطة فأنفذت رؤاها إلى مجتمعها سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه وأرضاه). هذا المتفرد العظيم، الذي تتعدد جوانب تفرده وتميزه فلا نكاد نحصيها، ويعنينا في هذا الموضع أن نسلط شعاعا من ضوء على جانب من جوانب هذا التفرد، وهو إقراره للمنطلق الأول من منطلقات تيارنا، “الثورية أو الجذرية كمنهج تغيير”، إذ عددت لنا سيرته مواقف تؤكد على هذا المنطلق، لعل أشهرها تلك الرواية التي سأل الناس فيها أن يقوموه إن رأوا فيه اعوجاجا، فقال له أحدهم:”والله لو علمنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا”، فحمد الله أن جعل في المسلمين من إذا جار عمر قومه بسيفه.

حاكم يقر الخروج ـ بالقوة ـ على نظامه إن شابه ظلم أو طغيان!!.

إن هذا النموذج الفريد ربما لا يكون له نظيرا، ليس فقط في تاريخنا بل في تاريخ الإنسانية جمعاء. ويتصدر تيارنا الإسلامي التقدمي ذاك المتفرد، كيف لا؟ّ!، وهو أول من رسخ لتلك الفكرة في المجتمع الإسلامي الأول، فكرة التقدمية.

هو المجتهد الثاني ـ كما وصفه الأستاذ العقاد ـ بعد رسولنا الأكرم صلوات الله عليه وسلم)، فالصحابي الجليل هضم الماضي (التجربة النبوية)، ثم انطلق في آفاق الحاضر يجتهد رأيه، لا تابعا لرأي غيره حتى لو كان رأي المعصوم (صلى الله عليه وسلم) ـ وذلك في أمور كثيرة ـ مدركا ضرورة التغيير لمواكبة تغيرات الواقع، متطلعا إلى المستقبل، فقد كان حاضرا لديه ( من ذلك اجتهاده في مسألة تقسيم أرض السواد، إذ رفض عمر “رضي الله عنه وأرضاه” أن يقسم الأرض كما سبق وفعل رسولنا الكريم بأرض خيبر، مبررا رأيه ذاك بحفظ حق الأجيال القادمة، إضافة إلى خوفه من مفاسد قد تنشئ عن توزيع الأرض).

وإذا كنا نجد المنطلق الأول من منطلقات “الإسلامية التقدمية” حاضرا في التجربة العمرية، فكذلك حال المنطلقات الثلاث الأخرى ( العدالة الاجتماعية كنظام اجتماعي، الديمقراطية كنظام سياسي وـ بالقطع ـ الإسلامية كمرجعية نهائية)، كما شكلت هذه المنطلقات ـ التي عددناها ـ القضايا التي تمحورت حولها سير رواد تيارنا الأوائل جميعهم، أما المنطلق الرابع “القومية العربية كتطلع وحدوي” فقد ادخره التاريخ ليبسطه في العصر الحديث، فيندفع مفكرو عصرنا ذاك ليدلي كل منهم بدلوه ـ في تلك المسألة ـ بما يتفق وتوجهه الفكري.

فمنهم من شيد بناء القومية العربية على أساس من الجنس أو العنصر، ومنهم من نبذ هذه الفكرة ـ جملة وتفصيلا ـ على أي أساس من الأسس، وعدها دعوى جاهلية، ليتطرف هؤلاء على الجانب المقابل، وهو الموقف الذي تمترست وراءه “الإسلامية التقليدية”، بينما نحى أعلام تيارنا (السيدان جمال الدين والكواكبي) منحى مغاير لهذين المنحيين المتطرفين، فكان مذهبهما في القومية قائما على رؤية مفادها أن العربية هي لسان وآداب وثقافة، وطريقة للعيش في شتى نواحيه، و”أن كل أمة ينبغي أن تتمسك بجامعتها القومية، وأن ذلك لا ينافي الإسلام في شئ” (كما قال مولانا جمال الدين)، وأن للوحدة دعائم عدة لابد أن تتوافر حتى يرتفع بناءها راسخا شامخا.

“الإسلامية” و “التقدمية” ـ ماذا نقصد بهذين المصطلحين؟

الإسلامية لدينا هي “الأصول العامة المطلقة، والتي تحتوي علي مضامين أخلاقية، وفلسفية، وتشريعية، مصدرها الدين الإسلامي ( وتشاركه في كثير منها الأديان السماوية الأخرى)، وهذه الأصول العامة المطلقة تحكم بصورة مباشرة وغير مباشرة (عبر تجنب ما قد يتعارض تعارضا قطعيا مع ما تدعو إليه) كل فعل يقوم به معتنقيها، وتُعني تلك المرجعية بالدرجة الأولى بتحقيق مصالح الناس”.

والإسلامية تبعا لهذا التعريف تأبى أن تكون قاصرة على جماعة دون أخرى، أو تيار دون آخر، إذ تفتح ذراعيها لجميع التيارات ليدخلوا تحت عباءتها، شريطة أن يبتغوا المصلحة العامة (فحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله كما قال الإمام ابن القيم)، وألا تتعارض الأفكار التي يروجوا لها تعارضا قطعيا مع مطلقات المرجعية الإسلامية، ومن ثم فهذه المرجعية لا تقف حائلا بين أي تيار أو جماعة وبين أن تبدع أو تتبنى ما عنى لها من فكر، أو فلسفة، أو تشريع تتحقق به مصالح الناس، بما لا يتعارض مع المطلق….” *.

 وهنا نستطيع القول بأن دعاة المرجعية الإسلامية الذين يقدمونها بحسبانها أيدلوجية في مقابل ـ على سبيل المثال ـ الاشتراكية أو القومية…، هم جاهلون تماما بماهية المرجعية الإسلامية، بل ومتاجرون بها (وأغلبهم كذلك)، فهي مظلة تتسع لمختلف التيارات الفكرية، ومن ثم التعامل معها باعتبارها أيدلوجية ضيقة ذات  توجه محدد، وإيهام الجماهير بذلك، هو نوع من الدجل والشعوذة الذي تمارسه القوى الإسلامية.

وإذا انتقلنا لتوضيح ماذا نعني ب”التقدمية” في تيارنا؟ سنجدها تقوم على دعائم ثلاث:

أولا: استيعاب الماضي، بمعنى الاطلاع على التراث وهضمه بشكل كامل، ثانيا: مواكبة تغيرات الواقع والتعاطي معها بما يتفق والشخصية الثقافية التي تشكلت على أساس الدعامة أو القاعدة الأولى، أما الدعامة الثالثة فتتمثل في التطلع دوما إلى المستقبل، والاهتمام بالمصير.

أهمية وجود هذا التيار: (السمات المميزة)

هذا التيار ـ الذي ندعو لإنشائه ـ هو تيار قائم على أسس مدرسة فكرية أصيلة تمتد جذورها في عمق تاريخنا العربي الإسلامي، يحمل فكرة واضحة محددة المعالم والمنطلقات، وهو أمر ـ بكل تأكيد تفتقده الأحزاب والجماعات التي تنتمي لذات الدائرة؛ الدائرة الإسلامية، إلى جانب ذلك فالمنطلقات التي نتحدث عنها هي بمثابة دعائم لمشروع النهضة المأمول، بل لا يستطيع أي مشروع نهضوي متكامل أن يتجاهل أيا من العناصر التي عددناها كمنطلقات لتيارنا (وهي الثورية أو الجذرية كمنهج تغيير، العدالة الاجتماعية كنظام اجتماعي، الديمقراطية كنظام سياسي، القومية العربية كتطلع وحدوي، والإسلامية كمرجعية نهائية).

إضافة إلى ذلك هناك أهمية عملية لوجود هذا المشروع ـ في المرحلة الراهنة ـ على الساحة السياسية، فمن الواضح أن جزءا كبيرا من مجتمعنا يتجه بقوة نحو الإسلامية السياسية، وذلك رغم عدم الوضوح الذي تتسم به أطروحات القوى المتبنية تلك المرجعية، واتخاذهم مسارا سياسيا مخالفا ـ ولن نقول معاديا ـ للمسار الثوري، فهذه القوى جميعها هي ربيبة “الإسلامية التقليدية”، والتي لطالما كانت معادية للنهج الثوري، (وهذا التوجه نحو تلك القوى راجع ـ في جزء كبير منه ـ إلى أنها هي المتواجدة بحق على أرض الواقع، والمتواصلة بقوة مع الجماهير عبر العمل الدعوي والدور الاجتماعي والخدمي البارز الذي تقوم به، في المقابل نبصر التيارات المنافسة خلو من مثل هذا التواجد أو ذاك التواصل!)، ومن ثم نحن نزعم أن هذا التيار (وهو ينتمي لذات الدائرة) إضافة إلى كونه ـ في أفكاره ـ الأكثر ملامسة لتطلعات الجماهير سيكون بمثابة المنقذ لهم من الصراع الناشئ داخل ذواتهم الناجم عن توجههم نحو قوى لا تعبر بشكل كامل عما يصبون إليه.

وإلى جانب كل ما ذكرنا نعتقد أن تيارنا ذاك قد يمثل النافذة التي يطل منها ـ من جديد ـ تيار أصيل، اختفى من حياتنا السياسية، أو أصبح وجوده ـ رغم أصالته تلك ـ وجودا هامشيا بها، وهو التيار القومي.

وفي الختام نشير إلى أن كون هذه المدرسة تمثل الإسلامية الحقة، هي حقيقة توشك أن تكون واضحة بذاتها، إذ ليست بحاجة إلى برهان يقوم على صوابها؛ لأن كل إنسان مؤمن ـ صاحب عقل ـ يدرك أن الأديان ـ بصفة عامة ـ لم تبعث بها السماء لتقر ظلما واقعا على العباد؛ ليس فقط ذاك الظلم الذي يجنيه الإنسان على نفسه بعبادته غير مولاه الذي خلقه، بل الظلم بشتى أنواعه، (فحاشا لله أن تقر الإسلامية الحقة إطاعة حاكم مستبد فاسد فاسق …..!!، وحاشا لله أن تكبل ـ تلك الإسلامية ـ يد الدولة في مواجهة ثروات تتضخم ـ ما دام أصحابها قد أدوا زكاتها ـ وهناك بالمجتمع من لا يجد قوت يومه!!، وصدق القائل* “إذا جاع مسلم فلا مال لأحد”، وحاشا لله أن تتناول هذه الإسلامية واقعنا بآراء قد أصابها البلى من جراء تداولها عبر القرون، وهذا رأي صواب لا يحتمل الخطأ.

*عمر بن الخطاب (رضي الله عنه وأرضاه)

 
أضف تعليق

Posted by في فيفري 15, 2012 بوصة مقالات

 

لغة النار

هي لغة النار إذن.. نعم هي لغتي منذ اليوم!. مادام صوت الخنوثة قد علا، فتردد دويه في أرجاء الوطن!، مادامت الخيول الخصية ـ على عكس ما ينبئنا المثل البدوي ـ تصهل في وجوهنا!!.

هي لغة النار إذن ما دام سياسيو العصر البائد ـ على عهدهم ـ يمارسون العهر علانية!، فلا زاجر لهم من دين أو ضمير أو وطنية!.

وأنى يزجرهم ذاك ـ اليوم ـ وقد لاحت أمام أفئدتهم الظمأة سراب المغانم!، فاندفعوا ـ لا يلوون على شئ ـ يتسابقون إليه لعله يصدقهم!!، وكانوا بالأمس القريب ـ أبدا ـ لا يأنفون اقتراف تلك الفحشاء وقد صعر لهم الأمل خده!.

بيد أن بعضهم كان يستتر، أما اليوم فلا ستر ولا حياء!، بل هو السعار أصابهم!، فمضوا كالكلاب الضالة يعوي بعضها على بعضها!، متحلقين حول عظمة ألقي بها إليهم!!.

هي لغة النار إذن وأنا أبصر عبيدا غريبي الأطوار، قد نصّبوا الأنصاف والأشباه أسيادا لهم!، وبذروا جهدهم في أرض أسيادهم البور فلم تثمر إلا الخيبة والحسرة، ليداوم هؤلاء العبيد على خدمة أسيادهم أولئك كأنها قدر لا راد له!!. وإذا ما سائلت أحدهم ما الذي يسوقك إلى ذلك أيها العبد الشقي؟! أخبرك (لا فض فوه) أنه يخدم الفكرة، لا هؤلاء!.

أي فكرة؟! أفقاعة الهواء تلك هي الفكرة؟! أهي هي التي أنبئنا عنها هيرقليطس أنها أغلى عليه من عرش فارس؟!.

إن أولئك كمثل أهل الكهف في أمثولة أفلاطون الإلهي؛ لم يحتط الخيال لخداعهم بل مر ـ يتهادى ـ أمام أبصارهم، ليخيل إليهم أنه حقيقة لا مراء فيها، فاعتقدوا بها!!.

هي لغة النار إذن وأنا أشاهد القسمة غير العادلة بين خنوع “نعم” وتمرد “لا”!.

هي لغة النار إذن وأن أرى الفضلاء يعاقبون على فضيلتهم مرة تلو المرة، حتى لتكاد الفضيلة تبارح أرواحهم، كما يبارح الدخان النار إذا همدت!.

هي لغة النار إذن وأنا أرقب الهوام تطن في كل مكان، ليصيب طنينها الثوار الأصلاء بالصداع والغثيان، فيسارعوا إلى العزلة!.

ومن هؤلاء الأصلاء؟!، انهم من لا يفاخرون بالثورة، إذ لا يفاخر بها إلا العبيد، أم أولئك فقد جبلوا من نارها، فهي أصيلة في تكوينهم.

هي لغة النار إذن وقد أحاطت أبصار الساكنين مطالع النور وادينا ــ بنظرات ملؤها الأسى والغضب!، إذ أبصروا المسوخ الباردة تنقع غلتها من نهر شقه هم، وأسالوا فيه دمائهم، لتروي الأرض العطشى، فتنبت ـ لأهاليهم ـ حرية وكرامة وعدالة، لكن هذه المسوخ عز عليها أن يظلل الناس هذا النبت الشريف!!، فتكرعوا في وجوه الجماهير ـ بعد أن ارتوت عروقهم ـ أقوالا وأفكارا مسمومة، سممت عقول الكثيرين، وأفسدت عليهم رجولتهم، فأضحوا خصيان ـ لا يثيرهم شئ ـ تسيرهم تلك المسوخ الباردة المخنثة!!.

هي لغة النار إذن. نعم هي لغتي منذ اليوم.

 
أضف تعليق

Posted by في فيفري 14, 2012 بوصة مقالات

 

عام من الثورة . . ماذا بعد؟

عام مر على بدء الثورة، تغير فيه وجه الحياة بمصر، بل ـ على الأحرى ـ دبت إليها الحياة من جديد ـ بعد استغراق في غيبوبة طال أمدها ـ لتنهض متعكزة على عزيمة أبنائها، لكنها نهضة يشوبها الضعف والقلقة، فلا يؤتمن معها أن تنتكس، لذا فهي في أمس الحاجة لصلابة أعواد أبنائها جميعهم، تستند إليهم ـ فتستقيم وقفتها ـ لتتقدم بخطى ثابتة نحو مستقبل واعد.

وخلال هذا العام تغيرت ـ ببلدنا ـ ديموغرافية الحياة السياسية؛ لتختفي قوى وتبرز أخرى وتتضاءل ثالثة. بعضها يأبى إلا أن يستكمل مطالب الثورة، ليدفن ذلك النظام الطاغوتي بأكمله، ويقطع دابره مرة واحدة وللأبد، والبعض الآخر قد قعد به ضحالة طموحه وضعف خياله ـ ولن نقول قعدت به أطماعه ـ فرأى أن ما حصلته الثورة ـ ولن نقول ما حصله هو ـ من مكاسب كاف، وأن لا حاجة للصدام مع النظام ففي الصدام مخاطرة، وفي المخاطرة احتمالات الخسارة قائمة، وأولئك يتطيرون من مجرد احتمال حدوثها.

وإذا انتصرنا إلى الرأي القائل بأن الثورة لم تكتمل ـ ونحن عليه ـ فهذا يعني أن البلاد لم تمر بعد من عنق الزجاجة، وأن المرحلة القادمة بالغة الدقة والحساسية، لذا

 فعلينا التوقف عند الفترة الماضية لنسترجع أحداثها، متناولينها بالتحليل، ليكون تحليلنا ذاك سبيل هداية لمن أرتأى استكمال السير في ذلك الطريق الذي شقه شهدائنا الأبرار بدمائهم الذكية.

بداية لابد أن نحدد القوى الفاعلة في المشهد السياسي اليوم، وهي ـ على الترتيب بحسب درجة الفاعلية على الساحة السياسية ـ المجلس العسكري، والقوى الإسلامية، والنخبة الليبرالية واليسارية، والحركات والائتلافات الشبابية، ورغم أن هذا التقسيم ليس مطابقا ـ بدقة ـ لما هو كائن على أرض الواقع، لكن اعتماده ضروري حتى نتخذ سبيلنا إلى تحليلنا ذاك.

لا شك أن المجلس العسكري هو أكثر هذه القوى فاعلية في المشهد السياسي، ليس فقط لأن السلطة بيده، ولكن لأنه الطرف الوحيد من بين الأطراف الفاعلة على الساحة السياسية التي تسير خطواته وفق خطة مسبقة، فالعسكر ـ وهو أمر تقتضيه طبيعة عملهم ـ لا يتحركون إلا عبر خطة موضوعة ـ  وقد أثبتت أحداث السنة الماضية من الثورة ـ بما لا يدع للشك مجالا ـ أن المحور الرئيس لتلك الاستراتيجية العسكرية هو محاصرة الحالة الثورية، والحد من تداعيتها، والمحافظة على النظام المباركي قدر الاستطاعة.

والعامل الثالث الذي يزيد من فاعلية العسكر ومن تأثيرهم على مجريات الأمور هو تفتت القوى الثورية، وعدم أهلية كثير من المتصدرين منها لإدارة الصراع، إضافة إلى اكتفاء تلك القوى بردود الأفعال الناجم عن خلو جعبتهم من استراتيجية محددة وواضحة لإدارة تلك المرحلة الدقيقة من حياة الوطن، لذا نبصرهم ـ في أحيان كثيرة ـ الطرف المفعول به، لا الفاعل، وذلك منذ سقوط رأس النظام وإلى اليوم. إلى جانب هذا فقد استطاع المجلس العسكري استمالة القوى الأكبر حجما والأكثر تنظيما ـ على الساحة السياسية ـ إليه، ومن ثم شكلت هذه القوى غطاءا شعبيا لسياساته طوال الفترة السابقة.

وهنا يأتي دور الحديث عن هذه القوى ـ صاحبة الترتيب الثاني في درجة الفاعلية بالمشهد السياسي ـ وهي القوى الإسلامية، وقبل أن نورد أي تحليل لأداء هذا التيار لابد أولا أن نُفَصّل ما أجملناه في هذه الكلمة، القوى الإسلامية، إذ تنقسم إلى تيارين كبيرين، هما جماعة الإخوان المسلمين والتيار السلفي.

وإذا القينا الضوء على النهج الذي انتهجته الجماعة طوال الفترة الماضية، نستطيع أن نوجزه في عبارة يبدو أن الجماعة قد استبدلت بها شعارها التاريخي “الإسلام هو الحل”( والذي اختفى من الانتخابات الأخيرة)، إذ أضحت “البرجماتية هي الحل” لديها، فكان أن عقدت صفقة مع النظام أثناء الموجة الأولى للثورة (استمرارا لمسلسل عقد الصفقات مع نظام طالما وصفته بأنه نظام غير شرعي)، وهي الصفقة المعروفة التي أبرمت مع عمر سليمان، وكشفت عنها مصادر عدة ( أهمها القيادي السابق بجماعة الإخوان هيثم أبو خليل، والذي صدّر أسباب استقالته ـ من الجماعة ـ بحديثه عن تلك الصفقة)، ثم تلتها صفقة مع المجلس العسكري عمل الإخوان بموجبها ـ بما لهم من ثقل على الأرض ـ كغطاء شعبي لتوجهات المجلس وقراراته، فسياسة الجماعة كانت ـ وما تزال ـ تستهدف الحصول على أكبر قدر من المكاسب دون صدام مع السلطة، أو ليكن الصدام هو الورقة الأخيرة إن لم يكن منه بد.

أما عن التيار السلفي، فليس لدينا الكثير لنسوقه عنه، سوى الإشارة إلى أنه كان يعد السياسة من المحرمات التي لا ينبغي الاقتراب منها، وذلك قبل الثورة، وتماهى مع رأيه هذا أثناء الموجة الأولى للثورة، فلم يشارك ـ بها ـ مشاركة حقيقية، ليتصدر حديث رموزه ـ أثناء تلك الموجة ـ الرأي الفقهي القائل بعدم الخروج عن الحاكم وإن ظلم وإن فسق …..إلخ!.

لكننا فوجئنا به بعيد التنحي، يتراجع عن موقفه ذاك، ويقرر كثيرون ممن ينتمون إلى هذا التيار خوض العمل السياسي، ليشترك مع جماعة الإخوان في لعب ـ كما ذكرنا سابقا ـ دور الغطاء الشعبي لسياسات المجلس العسكري.

أما النخبة الليبرالية واليسارية والحركات الشبابية الثورية، وأنا أدمجها في حديثي لأنها متشابكة على أرض الواقع، (فكثير من الشباب انضم إلى تلك الأحزاب التي تقودها هذه النخبة، كذلك هناك الكثير منهم لا يزال يحتفظ بوجوده في الأطر الشبابية الثورية، إضافة إلى أن المواقف السياسية للطرفين متوافقة إلى حد كبير). وهي أيضا ـ في غالبيتها ـ الطرف الذي يتبنى الخط الثوري. هذه القوى مجتمعة هي أضعف حلقات المشهد السياسي، ولكي نعلل ضعف تأثيرها ذاك لابد أولا أن نعاود تقسيمها متناولين ـ في البداية ـ النخبة بمعزل عن الحركات والائتلافات الشبابية، مقدمين الأولى على الثانية، باعتبار أن النخبة هي الأكثر تأثيرا في العلاقة بين الطرفين، وبالتالي هي الأكثر فاعلية.

مما لا شك فيه أن هذه النخبة فشلت ـ إلى الآن ـ في إدارة المعركة مع المجلس العسكري، وهذا الفشل هو امتداد لفشلها ـ السابق ـ في إدارة صراعها مع الحزب اللاوطنى ونظامه، إذ عجزت تلك النخبة ـ على مدار عقود طويلة ـ عن أن تتقدم خطوة واحدة نحو هدفها المتمثل في التغيير، وكان سعيها تجاه تحقيق هذا الهدف قاصرا على بعض الفاعليات ـ والتي لم تكن ذات جدوى حقيقية ـ من قبيل تظاهرات السلالم، واحترافها تكوين الحركات المختلفة ( والتي لم تحمل حركة واحدة منها برنامج محدد وواضح لكيفية التغيير)، مصرفة جل وقتها في تسجيل المواقف على الفضائيات وفي صفحات الجرئد، مستسلمة ـ بذلك ـ لدور المغلوب على أمره، الذي فرضه عليها نظام مبارك.

 ثم كانت الثورة، فتعاملت هذه النخبة ـ أيضا ـ مع المجلس العسكري، بنفسية الرجل المهزوم ـ والتي ترسخت لديها عبر العقود الماضية ـ فاندفعت تمجد المجلس العسكري، وتشيد بدوره في حماية الثورة(1)!! ( وهذا في الفترة التي تلت التنحي مباشرة)، وتجاهلت حقيقة منطقية بسيطة، وهي أن هذا المجلس لا يمكن أن ينحاز لثورة على نظام مبارك، لأنه جزء لا يتجزأ من هذا النظام بفساده، وانعدام إيمانه بالديمقراطية، وانه تحت السيطرة بدرجة ما، (فمؤسسات الدولة جميعها بدءا من أصغر مجلس محلي لأصغر قرية من قرى مصر وصولا إلى أهم مؤسسة في الدولة، وهي المؤسسة العسكرية، عمل النظام على إحكام سيطرته عليها، وذلك بوضعه أهل الثقة والفاسدين على رأس تلك المؤسسات، وهو ما كان معروفا للكافة)، وللأسف الشديد انساق عدد كبير من القوى الشبابية الثورية ـ بعيد التنحي ـ وراء هذا الموقف، فكان منهم ومن العسكر ما سنذكره لاحقا.

إلى جانب ذلك لم ترق نخبتنا تلك ـ يوما ـ إلى مستوى الحدث (الثورة)، فحافظت على الطريقة التي اعتادت التعاطي بها ـ مع خلافاتها ـ فيما بينها، واستمرت معاركها ـ الصبيانية ـ على ذات المنوال الذي كان قائما قبل الثورة، وهو أمر لا يتطلب تدليل على صحته، فمشاهدة البرامج الحوارية وبرامج “التوك شو” تغنينا عن ذلك، لكن لا مانع أن نضرب مثال على تلك الطريقة الصبيانية في التعاطي مع الأحداث السياسية لتكون نموذجا واضحا على ما ندعيه.

قطعا مازلنا نتذكر أنه بعيد الاستفتاء (الموجه)، تململت النخبة من نتيجته وأعلنت عدم رضاها عليه، لكن بدلا من أن تكثف جهودها لكي تكون أكثر تأثيرا في المشهد السياسي ـ بالمرحلة المقبلة ـ من خلال تقوية الأطر التي تقودها، شط البعض (الجمعية الوطنية للتغيير) في موقفه، فأطلق دعوة لتجميع 15 مليون توقيع بهدف إسقاط نتيجة الاستفتاء، وجعل “الدستور أولا”، وانساقت وراء هذه الدعوة النخبوية حركات وائتلافات شبابية (ائتلاف واتحاد شباب الثورة، واتحاد شاب ماسبيرو، والجبهة الحرة للتغيير السلمي، وحركات وائتلافات أخرى)، وهو الأمر الذي فشلت هذه الحركات في تحقيقه، لكن المسألة ـ بداهة ـ لم تكن مرتبطة بفرصة النجاح أو الفشل في تجميع هذه التوقيعات!، فحتى لو نجحت تلك القوى في مساعها ذاك، فهل كان يُتوقع أن تجُب هذه التوقيعات نتيجة استفتاء رسمي، قامت به الدولة!!. إن هذا الموقف يعد نموذجا للطريقة التي اعتادت أن تُصَرف بها تلك النخبة وقتها وجهدها!.

أما عن الحركات والائتلافات الشبابية فنتيجة لعدم أهلية كثير من المتصدرين لقيادتها، فقد انساقت ـ دوما ـ وراء الآراء الجاهزة لهذه النخبة الفاشلة، وهو ما لمسناه منذ التنحي، إذ انساقت كثير من هذه الحركات لما سوقته النخبة من أن المجلس العسكري هو حامي حمى الثورة، ليَسْهُل على ذاك المجلس معانقة تلك الحركات الشبابية عناق الدببة، فاعتنى باستضافتهم في كل الحوارات التي أجراها مع القوى السياسية، كما احتفت بهم آلية العسكر الإعلامية احتفاءا بالغا، وأصرت على نسبة الثورة إليهم، لتكون ثورة شباب لا ثورة شعب!، واستسلم هؤلاء لهذا العناق فترة قصيرة، ثم أفاقوا ـ من استسلامهم ذاك ـ على سياسات تتجاهل ـ كليا ـ مطالب الثورة، فكانت الدعوة لمليونيات حاشدة ـ كوسيلة فاعلة للضغط في البداية ـ قابلها تراجع تكتيكي من جانب المجلس العسكري، وإنفاذه بعض المطالب بعد تفريغها من مضمونها، ساعيا إلى توثيق ارتباطه بالتيار الإسلامي، ليفصله عن القوى الثورية، وفي ذات الوقت يكون بمثابة الغطاء لسياساته في الشارع، وهو ما كان (وبناءا على ما سبق نستطيع القول بأن القوى الثورية أسهمت بنصيب غير منكور ـ بعيد التنحي ـ في صناعة الصورة الإيجابية للمجلس العسكري، التي ترسخت لدى الكثيرين، وأضحى من الصعوبة بمكان استبدالها بأخرى تجافي الأولى).  

إذا كانت هذه هي رؤيتنا للقوى الفاعلة في المشهد السياسي، فأين المخرج إذن؟

لا أعتقد أن تلك النخبة ـ وإن كان بينها رموز نكن لها كل التقدير والاحترام ـ يمكن أن تلعب ـ بناءا على ما ذكرنا ـ دورا إيجابيا في المرحلة المقبلة للثورة، وعليه فإن تعويلنا منصب على الحركات الشبابية (وهذا على اعتبار أن هذين الطرفين ـ فقط ـ هما الممانعين بقوة لمجمل سياسات المجلس العسكري التي تحمل العداء الصريح لكل ما ومن ينتسب للثورة)؛ أن يعالجوا أوجه القصور لديهم، فتنتظم خطواتهم وفق خطة عمل محددة وواضحة، وأن يسعوا بكامل طاقاتهم إلى توحيد قواهم وحركاتهم، وذلك في مشروع سياسي، وأن يكفوا عن تبني تلك الفكرة الخاطئة التي يعتقد الكثير منهم فيها؛ أن استكمال مطالب الثورة لن يكون إلا عبر الأطر الثورية (الحركات والائتلافات)، وأن لا حاجة لمشروع سياسي تنتظم فيه جموعهم!!، ولعل انتخابات مجلس الشعب ـ التي أجريت منذ فترة قصيرة ـ قد أثبتت خطأ وجهة النظر تلك (فللأسف الشديد القوى التي احتلت المراكز الثلاث الأولى في البرلمان قوى غير ثورية!).

وأن تبادر هذه الحركات الشابة إلى محاصرة تلك النماذج التي طفت على سطحها، وأضحت عبئا ثقيلا عليها، فلم تعد تقوم بواجباتها، وباتت الحركات التي تنتمي إليها هذه القيادات ـ في نظرها ـ ليست سوى مجرد كيانات تتحدث باسمها في وسائل الإعلام، وأصبحت هذه الأخيرة غاية وليست وسيلة (ولعل هذه الآفة قد انتقلت إليهم ـ أيضا ـ من النخبة).

وأخيرا رغم ما يلف الصورة ـ التي عرضناها ـ من قتامة فلن نكون أبدا متكلفين إذا ادعينا التفاؤل؛ ذلك أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ وعدنا إن صدقناه أن يصدقنا، لكن الصدق في حالتنا ـ وبدرجة كبيرة ـ لا يأتي من داخل الصورة المذكورة أعلاه، إنما مرجعه تلك الجماهير غير المسيسة، التي ما إن استدعيت لنصرة مطالب الثورة العادلة أبصرناها تلبي ـ وبأعداد غفيرة ـ النداء. فنحن بإزاء مجتمع قد استيقظ، وللأبد.

(1) مسألة أن المجلس العسكري حمى الثورة، وجنبنا المسار الذي صارت إليه ليبيا وسوريا هي خرافة لا أصل لها، فهل كان يملك المجلس ـ عمليا ـ  خيارا آخرا؟! ،وذلك أمام الملايين الغاضبة (14 مليون) التي غصت بهم شوارع مصر وميادينها، ولم يثنيهم عن الاستمرار في الإعلان عن غضبهم ذاك كل ما اصطنعه النظام لردعهم؛ مليون ونصف المليون جندي مركزي، اتهامات بالعمالة، وخطابات خبيثة تهدف لابتزاز عواطف الجماهير، تمطر بها سماء إعلام مضلل وخسيس، وقناصة وبلطجية مأجورون لا يراعون حرمة، ولا تأخذهم بأحد شفقة ولا رحمة ــ كل هذا لم يجد نفعا. وإذا فرضنا جدلا أن كان المجلس قد تجاهل روح التحدي والإصرار تلك التي ركعت أمامها جيوش النظام السابق الأمنية والإعلامية معلنة استسلامها ــ آملا في أن ينجح هو فيما فشل فيه أولئك، ومن ثم أصدر أمره بالتصدي لجموع الشعب الثائرة، فهل كان من المتوقع أن يطيع ضباط جيشنا هذا الأمر، ويتجاهلوا عقيدتهم القتالية التي تحول بينهم وبين تصويب سلاحهم إلى مدني أعزل؟!!. هل كان من المتوقع أن يطيع ضباط جيشنا أمرا كهذا، وكل منهم مدرك أنه قد يكون بين الثوار أخيه أو أخته أو ابنه أو ابنته أو…….أو……….؟! . وإذا ما افترضنا أن ذلك كان ممكن الحدوث، وأن بعضهم كان ليطيع الأمر الصادر إليه، فبالقطع كان هناك الكثير منهم سيرفض تنفيذ أمرا كهذا، لينجم عن ذلك انقسام داخل الجيش، وتقوم على إثره حرب أهلية، ويكون مَثل المجلس العسكري كمثل البطل اليهودي شمشون الذي هدم المعبد عليه وعلى أعدائه، بيد أن خيار شمشون  كان ـ عمليا ـ خيارا منطقيا، إذ فقد بصره، وأصبح معرضا للهلاك فاختار أن يهلك ـ ما دام هلاكه محتوما ـ هو وخصومه، بينما كان إقدام المجلس على خيار كهذا حماقة ستذهب بريحهم، وستورد البلاد مورد الأخطار. كذلك فإن القوى الدولية ـ وعلى رأسها الولايات المتحدة، ومدى نفوذها على الجيش معلوم للكافة ـ ما كانت لتسمح بولوج دولة  بحجم مصر وثقلها الإقليمي ـ حماية لمصالحها في المنطقة ـ  إلى موطن اضطرابات لم يكن ليعلم غيره سبحانه  بميقات خروجها منه.

محمد السيد الطناوي

 
أضف تعليق

Posted by في فيفري 2, 2012 بوصة مقالات

 

نحو إسلامية تقدمية(1) ــ “عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية”

شعار قدسي، أوينا إليه إبان الأيام الأولى لثورتنا المجيدة، فكان المأوى والمقصد الأسمى. ارتشفته أرواح شهدائنا الأبرار فكان آخر ما رددته السنتهم، ليسمع صداه في السماوات العلى بعد أن تصدعت الأرض بفعل وقعه المقدس.

شعار اشتراكي بامتياز، إذا شئنا أن ننسبه إلى الأيدلوجية، إنساني مثالي إذا شئنا أن ننسبه إلى الحقيقة؛ فما علمت الملايين الثائرة في ربوع بلدنا كافة عن هذه الأيدلوجيا شيئا، وعندما وضعت الثورة أوزارها، انسل من فرجة الحرية التي شقتها أحزاب ـ في معظمها ـ تفوح رائحة برامجها بعطر توجه رأسمالي كريه، أما الأحزاب الاشتراكية ـ القليلة العدد ـ التي أسست بعيد انقضاء الموجة الأولى من الثورة فقد انزوت انزواء الابن غير الشرعي لمجتمع لا يرحب كثيرا بتبني أيدلوجيات غريبة عنه.

أما الإسلامية فأكبر أحزابها “الحرية والعدالة” لا تستبين لدى إطلاعك على برنامجه الاقتصادي وتصريحات قياداته ـ التي تتناول هذا الجانب ـ أدنى اختلاف يذكر بينه وبين الرؤى الرأسمالية لأيا من الأحزاب الليبرالية، ولعل هذا يعود إلى أن الاجتهاد السائد والأكثر شهرة في الفقه الإسلامي الذي يتناول الشق الاقتصادي يغلب عليه النزعة الرأسمالية، فيرى فقهائه ـ على سبيل المثال ـ أنه مادام المسلم يؤدي زكاته للدولة فليس لها أن تطالبه بشئ آخر إلا ما تطوع به، ذاهبين ـ كذلك ـ إلى القول بأن ما أثبتته بعض النصوص من حقوق أخرى للدولة سوى الزكاة يؤديها المسلم يندرج تحت باب المستحب وليس بواجب أو ملزم.

وكما أن هذه الرؤية أثرت وصاغت بشكل أو بآخر العقلية الاقتصادية لمعظم التنظيمات الحركية الإسلامية ـ إن لم يكن جميعها ـ فإن الاجتهاد السائد والأشهر القائل بحرمة الخروج عن الحاكم وإن طغا وإن ظلم……..الخ، لتكون السلطة لمن غلب، كان له تأثيره ـ بدرجة أو بأخرى ـ على الرؤية السياسية لتلك التنظيمات الإسلامية، ومن ثم فإن أشدها بأسا في معارضة الأنظمة الطاغوتية ما كان ليتورع عن التعاون وعقد الصفقات مع تلك الأنظمة، في نهج بعيد تمام البعد عن تمثل الجذرية أو الثورية.

تيار بديل

 

 ورغم ما أقررناه فإننا إذا تحرينا هذه الثورية بداخل الدائرة الإسلامية فلن نعدمها، وإن توهجت شعلتها ـ عبر تاريخنا العربي الإسلامي ـ على نحو متقطع، فما أن ينجلي التاريخ عن أحد “المتفردين الإسلاميين” العظام حتى يشتعل أوارها بعد خمود، لتعود إلى هدأتها برحيله.

 ولعل أبرز هؤلاء “المتفردون الإسلاميون” العظام هو مولانا جمال الدين الأفغاني (قدس الله روحه)، من أيقظ وحده أمما وشعوبا بأسرها، وسار في البلاد يعلم أهلها الحكمة، ويهديهم سواء السبيل، فكان كالكوكب السيار، يتنقل بين المدارات، فلا يدع سهلا إلا ألقى عليه من ضياءه، ولا يترك أرضا وطئتها قدماه، ولا موضعاً أو مكاناً يلائم دعوته، إلا وبذر فيه من فكره الثوري، ضد الاستبداد والاستعمار.

ولو جوبنا تاريخنا نستقصي نموذجا أكمل للتيار الذي وردت تسميته بعنوان مقالنا لما وجدنا أمثل من نموذج جمال الدين الأفغاني، ففي سيرة السيد ودعوته التي دعا بها نبصر منطلقات هذا التيار متراصة جنبا إلى جنب؛ الثورية أو الجذرية كمنهج تغيير، العدالة الاجتماعية كنظام اجتماعي، الديمقراطية كنظام سياسي، القومية العربية كتطلع وحدوي، والإسلامية كمرجعية نهائية.

أما الثورية فقد سكنت سيرته واستقر مقامها بها، مطمئنة هانئة البال ـ إن جاز لها أن تهنئ ـ ليلتمسها من ينشدها في أعظم صورها وأبهاها حلة، مذ أن غادر السيد بلاده، بلاد الأفغان إلى الهند منتقلا إلى الآستانة مستقرا في القاهرة، منفيا عائدا إلى الهند مرة ثانية، فطهران لينفى مرة أخرى، ليكون مستقره الأخير بعد ذلك بالآستانة، ليسلم الروح شهيدا، بل سيدا من سادات شهداء الحرية.

كذلك فقد كان للسيد موقفا اجتماعيا متقدما، ومنحازا إلى الفكر الاشتراكي، عبّر عنه فيما بثه من تعاليم، ومن أقواله التي كشف فيها عن انحيازه ذاك: (…..إن دعوى الاشتراكية… وإن قل نصراؤها اليوم، فلا بد أن تسود في العالم، يوم يعم فيه العلم الصحيح، ويعرف الإنسان أنه وأخاه من طين واحد أو نسمة واحدة، وأن التفاضل إنما يكون بالأنفع من السعي للمجموع!..)(1)، لكنه انتقد الاشتراكية الغربية، ورأى فيها غلوا ناجما عن نزعة انتقامية من جور الحكام(2)، مشيرا إلى أنه “لما كان مذهب الاشتراكية كبقية المذاهب والمبادئ لها طرفان ـ وخير الأمور أوساطها ـ رأى الشارع الأعظم أن تنعُم فريق من قوم وشقاء فريق آخر في محيط واحد وبمساع ليس بينها وبين مساعي الآخرين كبير تفاوت، مما لا يتم به نظام الاجتماع..”(3)، ورأى في الإخاء الذي عقده المصطفى بين المهاجرين والأنصار “أشرف عمل تجلى به قبول الاشتركية قولا وعملا…”(4)

ولأن هذه القضية كانت حاضرة في الذهن الجمالي بقوة، فقد كان له السبق في تقدمة تفسير أحداث الفتنة الكبرى من خلال تحليل الجانب الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع الإسلامي آنذاك، وكيف نشأت الطبقات؟، وامتاز بعضها على البعض الآخر.

وعن ذلك يقول السيد: “في زمن قصير من خلافة عثمان تغيرت الحالة الروحية في الأمة تغيرا محسوسا، وأشد ما كان منها ظهورا في سيرته، وسير العمال (الولاة) والأمراء وذوي القربى من الخليفة، وأرباب الثروة، بصورة صار يمكن معها الحس بوجود طبقة “أشراف”! وأخرى أهل “ثروة وثراء وبذخ”! ونفصل عن تلك الطبقات، طبقة عمال، وأبناء المجاهدين ومن كان على شاكلتهم من أرباب الحمية والسابقة في تأسيس الملك الإسلامي وفتوحاته ونشر الدعوة…فنتج من مجموع تلك المظاهر التي أحدثها وجود الطبقات المتميزة عن طبقة العاملين والمستضعفين في المسلمين ـ تكون طبقة ـ أخذت تحس بشئ من الظلم وتتحفز للمطالبة بحقهم المكتسب من مورد النص ومن سيرتي الخليفة الأول والثاني أبي بكر وعمر. وكان أول من تنبه لهذا الخطر الذي يتهدد الملك والجامعة الإسلامية الصحابي الجليل “أبو ذر الغفاري”(5)”.

وإذا ما انتقلنا إلى الفكر القومي عند السيد جمال الدين نستطلعه، سنصادف نضجا مثيرا للإعجاب والإكبار، إذ “قد جرت العادة (في عصره) أن يطلب المفكرون القوميون العرب من الأتراك العثمانيين أن يتركوا العرب ولغتهم وأن يعدلوا عن سياسة “التتريك”…”(6)، لكن جمال الدين ذهب إلى أبعد من ذلك فطالب ب “تعرب” “الدولة العثمانية، وتعرب الأمة التركية(7)، وكان السيد يعتقد أنه “لا سبيل إلى تمييز أمة عن أخرى إلا بلغتها..والأمة العربية هي “عرب” قبل كل دين ومذهب. وهذا الأمر من الوضوح والظهور للعيان بما لا يحتاج معه إلا دليل أو برهان!”، “فالمسلم أو المسيحي، واليهودي في مصر والشام والعراق، يحافظ كل منهم قبل كل شئ، على نسبته العربية فيقول “عربي” ثم يذكر جامعته الدينية…”، مشيرا إلى أنه”ينبغي لكل أمة أن تتمسك بجامعتها القومية في صدور أبنائها، وأن ذلك لا ينافي الإسلام”(8).

ولم يكن الفكر القومي لديه “يعني إدارة الظهر “للتضامن” الإسلامي، بل ولا الرفض “للجامعة الإسلامية”(9)، إذ كان يرى أن الإنسان يتحرك في دوائر ثلاث:

1ـ دائرة الأمة التي ينتسب إليها.

2 ـ دائرة الملة التي تعتنق ذات الدين الذي يؤمن به.

3 ـ دائرة النوع الإنساني الذي هو أحد أفراده(10).

كذلك ما كانت العروبة لدى جمال الدين الأفغاني تعصبا لعرق، إنما كانت لديه رابطة لسان وتكوين نفسي وآداب وثقافة، ويؤكد ذلك ما جاء برده على الفيلسوف رينان الذي زعم أن أكثر الفلاسفة الذين شهدتهم القرون الأولى للإسلام كانوا كنابهي السياسيين من أصل حراني ، أو أندلسي، أو فارسي، أو من نصارى الشام..”، فدفع قول رينان ذاك بتبيان أن أولئك كانوا عربا لسانا وثقافة، متسائلا في تعجب:”..ماذا يكون لو قصرنا نظرنا على الأصل الذي ينتمي إليه العظيم، ولم نأبه للنفوذ الذي سيطر عليه، والتشجيع الذي لقيه من الأمة التي عاش فيها؟ لو فعلنا ذلك لقلنا إن نابليون لا ينتمي إلى فرنسا، ولما صح لألمانيا أو انجلترا أن تدعي كلتاهما الحق في العلماء الذين استوطنوها بعد أن رحل أصولهم إليها من بلدان أخرى”(11).

وما من شك أن هذه الدعوات التي أطلقها السيد جمال الدين الأفغاني إنما ينتظمها نسيج واحد، هو نسيج الإسلامية، كيف لا؟! وهو إمام المجددين، وفيلسوف الإسلام.

إن كان مولانا جمال الدين الأفغاني هو المثال الأكمل لهذا التيار، ليس فقط لما اتسم به من مواهب فذة وسمات شخصية وتكوين نفسي يلائم طبيعة ما دعا إليه، بل لأن العصر الذي بعث فيه كان تتخلله معضلات ـ من نوع ما ذكرنا ـ تحتم على من كان مثله أن يتصدى لها، ويخوض غمارها مستقصيا ثم مدليا بدلوه ما وسعه علمه، نقول إن كان جمال الدين هو المعبر الأمثل عن هذا التيار فقد سبقته قامات مديدة ألمت بطرف أو بآخر من أطراف الأسس الفكرية لتيارنا ذاك، بحسب ما اقتضته متطلبات العصر الذي انتمى إليه كل منهم، فكان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه وأرضاه)، من تسربلت سيرته برداء العدالة الاجتماعية، لتصير علما عليه ويصير ـ كذلك ـ  علما عليها، وأضحت مقولاته ـ أمثال “إذا جاع مسلم فلا مال لأحد”، “ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فوزعتها على الفقراء” ـ أنشودة يترنم بها الفقراء وذوي الحاجة.

وتبع أفول نجم عمر ـ برحيله عن الحياة ـ بزوغ نجم جديد من أنجم هذا التيار الشريف، لكن هذه المرة كان سطوعه في سماء المعارضة ـ وذلك على خلاف سلفه العظيم ـ انه  أبو ذر الغفاري (رضى الله عنه وأرضاه)، صاحب الصيحة الشهيرة، (بعد أن تبدلت أحوال المجتمع الإسلامي، وظهرت طبقة من ذوي الثروة والجاه، فتمايزت، وبعدت الشقة بينها وبين الغالبية من الناس) “عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه؟!”، صيحة أطلقها الصحابي الجليل منذ ما يزيد عن ألف وربعمائة سنة وما زال دويها يتردد في أجواء مجتمعاتنا الرازحة تحت خسف اجتماعي تئن منه عشرات الملايين، منذرة بانتفاضة لا تبقى ولا تذر.

وانتمى إلى ذاك التيار الشريف ـ كذلك ـ المفكر القومي السيد عبد الرحمن الكواكبي الذي رهن حياته لمدافعة الاستبداد، والدعوة إلى الحرية، وإلى “الحكومة الشورية”، واقترنت دعوته تلك بالحض على محاربة الظلم الاجتماعي الذي عده إفرازا من إفرازات الاستبداد، ورأى أن الإسلام أحدث “سنة الاشتراك على أتم نظام ، ذلك أن الإسلامية وضعت للبشر قانوناً مؤسساً على قاعدة: إن المال هو قيمة الأعمال ولا تجتمع في يد الأغنياء إلا بأنواع من الغلبة والخداع”(12)، مؤكدا على أن “العدالة المطلقة تقتضي أن يؤخذ قسم من مال الأغنياء ويرد على الفقراء، بحيث يحصل التعديل ولا يموت النشاط للعمل….”(13)، مادحا النظام الاشتركي، إذ يقول: ” ولا غَرْوَ إذا كانت المعيشة الاشتراكية من أبدع ما يتصوَّره العقل، ولكن؛ مع الأسف لم يبلغ البشر بعد الترقّي ما يكفي لتوسيعهم نظام التعاون والتضامن في المعيشة العائلية إلى إدارة الأمم الكبيرة“(14) ، وتضافر ـ كذلك ـ مع دعواته تلك، تبشيره بالقومية العربية، فكان رائدها الأول، لكنه لم يعزل عروبته تلك عن دائرة الجامعة الإسلامية، وقد بلغت رؤيته حولها حدا من النضج والوضوح “لم تصل إليه بعد أفكار كثير من الذين يعيشون بيننا الآن؟! والذين لا يزالون يضعون العروبة نقيضا للإسلام، أو يرون العقيدة الديننية تخطيا وإلغاءا للروابط القومية؟!..”(15).

إن هذا التيار أصيل ـ ما بلغت الأصالة مبلغها ـ بأعلامه ورواده الذين عددنا بعضا منهم، وألمحنا إلى أفكارهم وسيرهم، تلك التي تنساب عبر تاريخنا منشئة ـ بينهم ـ صلة نسب لا تنقطع، مفضية إلى تشكل تيار فكري تمتد جذوره عميقا في تربة مجتمعنا، وهي أصالة لطالما تنكب المجتمع سبيلها، فكان ينشر ـ في الآفاق ـ  كشافيه لإدراكها، ليحال بينه وبينها زمانا طويلا، وقد آن آوان نشر أريجها لتعود الروح ـ باستنشاقه ـ إلى بلادنا بعد أن غادرتها منذ أمد بعيد.

لقد تكون هذا الينبوع فوق ذروة البشرية السامقة، فلم يدنسه الأدعياء، إذ اعتصم  بين صخور حادةُ حوافها، ردت عنه ظمأهم المدنس، فما تعكرت مياهه يوما. أما وقد ملكنا دوحة المستقبل فقد آن لنا أن نُسيل هذا الينبوع ليروي دوحتنا تلك، فلا نرجو ـ غيره ـ لرى ظمأها إلى النهضة المنشودة.

(1)   جمال الدين الأفغاني، محمد عمارة، دار الشروق الطبعة الثالثة، ص181

(2)   خاطرات الأفغاني ـ آراء وأفكار، محمد باشا المخزومي، ص160 مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى،2002

(3)   المرجع السابق، ص163

(4)   المرجع السابق ص163

(5)   جمال الدين الأفغاني، محمد عمارة، دار الشروق، الطبعة الثالثة، ص206

(6)   المرجع السابق، ص171

(7)   المرجع السابق، ص172

(8)   الخاطرات، ص90

(9)   جمال الدين الأفغاني، محمد عمارة، دار الشروق الطبعة الثالثة ص185

(10)         المرجع السابق، ص195

(11)          زعماء الإصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين، دار الكتاب العربي، بيروت ـ لبنان، ص91

(12)         طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، عبد الرحمن الكواكبي، دار النفائس، الطبعة الثالثة، ص94

(13)         المرجع السابق، ص94

(14)         المرجع السابق، ص96

(15)         عبد الرحمن الكواكبي “شهيد الحرية ومجدد الإسلام”، محمد عمارة، دار الشروق، الطبعة الثانية، ص71

 
أضف تعليق

Posted by في ديسمبر 15, 2011 بوصة مقالات

 

القلم . . وما يسطرون

                                                                         

لكل فعل من أفعالنا وجهان، وربما حمل البعض بل الكثير منها وجوه عدة، لكن الكثيرين لا يدركون من أفعالهم ـ وكذلك أقوالهم ـ غير الوجوه التي قصدوا إليها ورغبوا في إنفاذها، نستثني منهم قلة من ذوي الفطنة والبصيرة؛ لا يُقدمون على شئ من قول أو عمل إلا أحصوا وجوهه، وفاضلوا بينها، فإن غلب عليها المنفعة أقبلوا، وإن كان الأمر على خلاف ذلك أحجموا( غير أننا نستدرك فنشير إلى أن لكل جوادا ـ من بين القلة المشار إليها ـ كبوة).

منذ اليوم الذي نزل الجيش ـ برجاله وآليته وعتاده ـ إلى الشارع، بعيد هزيمة جحافل الأمن المركزي على يد ملايين الشعب الثائرة، واعتراف قياداته ـ المجلس العسكري ـ بمشروعية مطالب الثورة، ثم تنحيته للرئيس المخلوع مبارك ــ وعامة الناس وكذلك خاصتهم ـ من السياسيين والكتاب والمثقفين والناشطين الشباب ـ في انقسام حول هذا الدور الذي لعبه المجلس العسكري في تلك المرحلة من مراحل الثورة، وإذا ما كان صادقا فيما ادعاه من تأييده لمطالب ثورتنا وانحيازه لها، وكونه لا يرنو إلى سلطة يستأثر بها، أم أنه يبطن خلاف ما يعلن، ليذهب البعض إلى القول بأن هي إلا فترة انتقالية قصيرة يؤسس فيها المجلس العسكري لنظام ديمقراطي ثم يقفل عائدا إلى ثكناته، بينما البعض الآخر ما فتأ يشكك في صحة تلك الدعوى.

 ورغم أن توالي الأحداث منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا لا يدلل على صدق هذا الزعم  ـ الذي  يُملى علينا ليل نهار عبر وسائل الإعلام المختلفة ـ  إذ مع كل يوم يمر، وكل واقعة تعتلي مسرح الأحداث ـ في بلدنا ـ يزداد القلق وتضطرب الحياة، وتخفت مصداقية حكامنا الجدد شيئا فشيئا، حتى نكاد لا نلمح لها أثرا، غير أن هذا لم يمثل ـ يوما ـ عائقا يحول بين حملة المباخر ـ لكل نظام ـ وأصحاب المصالح الشخصية أن يحاموا عن المجلس العسكري، وينزهوه عن كل طمع ورغبة في البقاء بالسلطة، ومن بين أولئك المحامون أفراد معدودين يقولون بقول تلك الفئة لكنهم ليسوا منهم، فإصرارهم على القول بأن المجلس العسكري هَدَف لحماية الثورة بتدخله على الشاكلة التى عليها كان، ومن ثم ارتأوا في الاصطفاف وراءه ـ بتلك المرحلة ـ أنه “واجب وطني”، إن هذا الرأي لا يدخلهم في نطاق تلك الفئات سالفة الذكر، كذلك  فهم لا يذيعوه في الناس ـ إن صدق حدسنا ـ عن اعتقاد حقيقي في صحته.

إذن ما الذي يدعوا مثل هؤلاء إلى أن يسلكوا هذا المسلك؟!، غالب الظن أن مبتغاهم من وراء ذلك يجره التمني أن تبحر سفينة الثورة ـ في ظل الأجواء العاصفة التي تعيشها البلاد ـ إلى مرفأ آمن، وهو لن يعدو كونه إقامة نظام ديمقراطي سليم طال شوقنا وتحرقنا إليه، وقادهم تفكيرهم إلى أن دعم ربان تلك السفينة، وتعضيده، وبث الطمأنينة إلي نفسه قد يكون هو السبيل الأمثل لنيل مطلبهم ـ ومطلبنا ـ ذاك.

ومن تلك الفئة التي نقصد إليها بحديثنا الأستاذ فهمي هويدي؛ إذ الأستاذ واحد من أولئك الذين لا نشك في حسن طويتهم، وابتعادهم عن المتاجرة بمواقفهم في سوق المصالح الشخصية، ومع ذلك نجده دائم الترديد في مقالاته عن دور المجلس العسكري في حماية الثورة[1]، وأن الاصطفاف وراءه في تلك المرحلة واجب وطني و……الخ، والتماسه حسن النية دوما ـ في تقييمه للأحداث الجارية ـ حتى وإن لم يكن لها موضع. وتجرأي على القول بأن الأستاذ لا يبسط هذا الرأي في مقالاته، بدافع من إيمان حقيقي به، بل بإيعاز من الرؤية السابقة الذكر أعلاه، أقول أن تجرأي هذا راجع إلى ما ساقه الأستاذ نفسه من مقدمات متمثلة في مقالات بثها في الناس طوال الفترة التالية للتنحي وتسلم المجلس العسكري السلطة ــ وإلى الآن،  وهذه المقدمات لا يمكن ـ بأي حال من الأحول ـ أن تفضي إلى النتيجة المتمثلة في رأيه ـ أيضا ـ السالف ذكره.

واليكم ما يقيم ادعاءنا على قدمين ضاربتين في الأرض، متناولين بعض ما كتبه الأستاذ فيما يخص السياسات الأمنية للسلطة الجديدة القديمة، وكذلك تصوره ـ الذي قدمه لقرائه عبر مقالاته ـ عن نوع السياسة الخارجية التي ينتهجها العسكر.

 قد كان الأستاذ من أوائل الذين لفتوا النظر مبكرا إلى استمرار السياسات القمعية “المباركية”، والسلطة يوم ذاك بيد العسكر، ففي مقاله المعنون ب”أيكون الاعتصام هو الحل؟” بتاريخ(14 فبراير)، أشار إلى أن “ثمة تصرفات تقلق المعتصمين وغيرهم، منها مثلا أن بعض زملائهم يتم اعتقالهم واقتيادهم للاستجواب فى مقر المتحف المصرى المطل على ميدان التحرير”.
مضيفا إلى أنه “فى هذا الصدد، فإنه يقلقهم أن المحققين لا يزالون يسألون المتظاهرين الموقوفين عما إذا كانوا مدفوعين من أى جهات خارجية أم لا. ويضاعف من قلقهم إدراكهم أن الجهات التى تتولى تلك التحقيقات يبدو أنها لم تقتنع بعد بأن تلك ثورة وطنية”.

ويخرج علينا الأستاذ بعد أقل من أسبوعين بمقال  ( تحت عنوان “طعنوا المتظاهرين والجيش” بتاريخ 27 فبراير) معلنا فيه أن القلق ما زال يسري في وجدانه مما “جرى مساء يوم الجمعة مع بعض المتظاهرين خصوصا أمام مجلس الوزراء..:، إذ كانوا قد “تعرضوا للضرب بالعصى الكهربائية كما تعرض بعضهم للسحل والإهانات التى أذهلت الجميع، وأعادت إلى الأذهان ممارسات ظننا أننا تجاوزناها…”، وكما أن ظن الأستاذ وقتئذ لم يكن في محله، فهو وإلى الآن ظن لا محل له من الإعراب، ودليلنا على ذلك لا نرتضى أن نستقيه من معين غير معين مقالات الأستاذ اليومية المنشورة بجريدة “الشروق”، إذ نجده يطالعنا في مقاله المعنون ب “كرامة المواطن خط أحمر (بتاريخ 28 مايو) على شعوره بالغضب والمهانة منذ قرأ شهادة “أوردها أحد المدونين على الإنترنت (طالب جامعى اسمه مصعب الشامى) يوم 23 مايو الحالى، وكان صاحبنا هذا أحد الذين تظاهروا أمام مبنى السفارة الإسرائيلية فى ذكرى النكبة. وبسبب من ذلك اعتقلته الشرطة العسكرية (بالإضافة إلى أكثر من 180 شابا تم تقديمهم على الفور للمحاكمة العسكرية وقتئذ) لعدة أيام. وفى شهادته ذكر مصعب أن أحد ضباط الجيش، وهو يعتقله وصفه بأنه ابن «عاهرة»، فما كان منه إلا أن طلب منه أن يترك أمه فى حالها ويخرجها من الموضوع، وحينئذ ركله الضابط فى وجهه وأسكته…”.

وتحت عنوان “أهالي الضحايا معذورون” (بتاريخ 30/6/2011) يكشف لنا الأستاذ عن استمرار “برطعة” ضباط أمن الدولة في البلاد والعباد، تحت عين النظام الجديد ورعايته، فكتب يحدثنا عن الرشاوي المعروضة على أهالي شهداء الثورة ـ من قبل ضباط أمن الدولة المتهمين بإزهاق أرواح أبنائهم ـ لكي يتنازلوا عن المطالبة بحق القصاص لذويهم، يدعم هذه العروض تهديدات تشمل تلفيق القضايا “بدءا من الاتهام بالاتجار فى المخدرات وانتهاء بقضايا الدعارة مرورا بالاعتداء على المال العام وسرقة وتسميم الماشية”، إذ لم يذعنوا ويقبلوا تلك الرشاوي وهم صاغرون. و يعلمنا الأستاذ أن تلك القصة جرت أحدثها ـ بتعديلات طفيفة ـ في محافظات بني سويف والسويس والأسكندرية، ونقلا عن جمال عيد مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان كتب مضيفا “أن الضباط المتهمين بالقتل الذين يفترض أن يتم احتجازهم، يذهبون إلى المحاكم فى الصباح كمتهمين ثم يعودون إلى مكاتبهم فى المساء لكى يمارسوا ترهيب الشهود وأهالى الضحايا”(!!!). وختم قائلا : “إن كل الشواهد تدل على أن هناك تسويفا فى محاكمة ضباط أمن الدولة المسئولين عن قتل المتظاهرين، كما أن هناك تدليلا لهم غير مبرر. إضافة إلى التلاعب فى شهادات الشهود الذى من شأنه تبرئة القتلة وربما إدانة الضحايا فى تهمة الاعتداء على مقار الشرطة والضباط «الأبرياء» العاملين فيها”(!!).

ولأن تلك الوقائع ليست خروجا عن النص، بل هي النص ذاته، فما زال الأستاذ يطالعنا ـ في مقالاته ـ على أشكال أخرى للسياسة الأمنية للنظام الجديد القديم، ومنها مداهمة قوات الأمن “40 شخصا من المخبرين وأمناء الشرطة” لمقر قناة الجزيرة، وذلك “دون أن يقدموا للقائمين على المكان أى أوراق رسمية تبين هويتهم أو هدفهم” (وهي المداهمة التي تكررت بعد فترة قصيرة ـ لمقر جديد لنفس القناةـ رغم أنف كل المعترضين والمنددين الذين استنكروا وأدانوا هذه الممارسة القمعية في السابقة الأولى).

ومازالت تلك السياسة “المباركية” القمعية ـ إلي يومنا هذا ـ قائمة ، ولعل آخر ما رصده لنا الأستاذ من ألوانها ما جاء بمقاله بجريدة الشروق (بتاريخ 30 أكتوبر)، تحت عنوان “فهمونا ولا تعظونا”، متحدثا عن جريمة قتل الشاب عصام عطا الذي كان حكم عليه “بالسجن لمدة سنتين بعد القبض عليه حين كان يقف متفرجا على معركة بين طرفين فى منطقة المقطم”، وبارتكابه مخالفة تهريب شريحة هاتف محمول فقد استحق القتل تعذيبا من قبل ضباط السجن،”وسجلت الشرطة فى محضر الوفاة أنه مات على إثر تعاطيه المخدرات. !!”

ولم يفت الأستاذ هويدي أن يشر في عجالة ـ بمقاله ـ إلى أن مسلسل الخطف مازال حلقاته تتابع، وكانت أخراها اختطاف الطبيب أحمد عاطف “الذى اختطف من الشارع أثناء عودته إلى بيته، ثم اختفى فى مكان مجهول لمدة أسبوع ثم اطلق سراحه دون أن يعرف من الذى اختطفه ولماذا اختطف. وكل ما يعرفه أن «جهة سيادية» هى التى اختطفته وأنه سئل عن دوره فى إضراب الأطباء، دون أن يتهم بشىء”.

 كذلك اختطاف “شريف الروبى” من حركة 6 أبريل “الذى اختطفته جهة سيادية من الفيوم، وظل وراء الشمس، مدة أربعة أيام”.

وإذا ما انتقلنا بحديثنا إلى كتبه الأستاذ في شأن السياسة الخارجية للنظام الجديد القديم ( لكننا لن ننتهج نهجنا السابق في تناول ما سطره الأستاذ في هذا الصدد، حتى لا يطول المقال عما ينبغي أن يكون عليه)، لنتوجه مباشرة إلى السؤال الذي طرحه الأستاذ ( بتاريخ 12 يوليو) لا مستفهما، بل مستنكرا ورافضا، معنونا به مقاله “هل يدير مبارك السياسة الخارجية لمصر؟”، ومضى الأستاذ يعدد ـ من السياسات الجديدة القديمة ـ ما دفعه إلى القول بذلك، وشاء القدر أن لا ينتظر الأستاذ كثيرا ـ بعد شهر وبضع أيام ـ حتى يتلقى تأكيدا على ما ذهب إليه، بوقوع جريمة مقتل الجنود المصريين الستة بنيران العدو الصهيوني (18 أغسطس)، وما تبعه من موقف مخز للمجلس العسكري حيال حادثة تكررت مرارا من قبل، فلم يختلف  كثيرا موقف النظام الجديد (القديم) عن سابقه، رغم الغضب الجماهيري الغير مسبوق.

( وإذا ابتغينا المزيد نستطيع أن نتتبع ما ذكره الأستاذ عن الخطاب الإعلامي للنظام الجديد القديم،”في مقالاته المعنونة ب أسئلة الصدمة المعلقة، لم يكن مقنعا ولا ناجحا، ليتكلم المشير ويعتذر، 7 أسباب للزعل، لا تبخسوا المجتمع حقه، لا تجلدونا من فضلكم، هل نحتاج إلى انتفاضة أخرى، غلطة الشاطر، يكبرون ومصر تصغر، بلطجية وعفاريت، لنقع على ذات الآفات التى استشرت في خطاب نظام مبارك من استخفاف بالعقول، وازدراء ـ غير خفى عن فطنة ذويها ـ للجماهير، ولهجة حديث متعالية يصاحبها اتهامات بالعمالة للقوى الوطنية).

إذاً الأستاذ ـ طوال الفترة الماضية ـ لم يتوان عن تعداد تلك الوقائع ـ التي اكتفينا بذكر نماذج لها من مقالاته ـ  ونقدها، (وبالقطع فمع كثافة تلك الوقائع والشواهد واستمرارها إلى اليوم فإنها تتحدى كل من ادعى كونها أخطاء وليست اختيارات وسياسات) وهي تنبئنا ـ بغير حاجة إلى تحليل أو تعليق من أحد ـ أن النظام الجديد ما هو إلا امتداد لنظام قد ولى ، بل هو هو.

كذلك فالأستاذ هو من ذهب إلى القول بأن “النظام البوليسى الذى استمر ثلاثة عقود لم يترك مؤسسة فى مصر إلا واخترقها وحاول تجنيدها لحسابه، بصرف النظر عن حجم تلك المؤسسة أو مجال عملها، حتى لو كانت جمعية لدفن الموتى”(الشعب يريد تطهير القضاء، 24 إبريل). وبداهة فالمؤسسة العسكرية أهم من جمعية دفن الموتى!!، بل هي أهم مؤسسة في البلاد، أكان مبارك غافل عن أن يضع رجال من تلك النوعية التي كان يستعملها على رأسها[2]!! .

فلماذا إذن يُعْرٍض الأستاذ عن مقدمات دفع ـ إلى قرائه ـ بها؟!، ليستنبط نتيجة غريبة عنها؟!. أهذه المقدمات ساقها لتلزم قرائه أولئك، ولا تلزمه هو؟!.

إذا كان الأستاذ يتكلف هذا الرأي من باب تدعيم  “آخر عمود في البيت” (بتعبير الدكتور معتز بالله عبد الفتاح)، أفلا يساوره الشك أن ما يلقي به إلينا (هو وغيره)   في مقالاته ـ مما ذكرنا سالفا ـ مرارا وتكرارا يكون له تأثير على غير الوجه الذي رغب إليه؛ فيزداد إكبار الناس لهذا المجلس وإعظامهم لأعضاءه، وبخاصة وأن ـ في المقابل ـ  النخبة الموكل إليها قيادة المرحلة القادمة يكثر فيها الآفاقون والمهرجون والمنافقون؛ خدم كل سلطان ومماليكه، والمتاجرون بكل شئ ، وكثير منهم  ـ كذلك ـ لا يحسن إلا “صراع الديكة” على تلك “المصاطب النخبوية” (برامج التوك شو)، وهو ما ليس رجل الشارع عنه بغافل ( ولا العسكر كذلك فقد خبروهم في الفترة الأخيرة). أفلا يكون هذا باب لارتفاع أسهمهم عند الجماهير، ليطمعوا فيما لا سبيل لهم إليه، ولا نقصد بالضرورة التطلع إلى الحكم السافر، بل الحكم من وراء ستار، أو ربما اقتسام للسلطة مع تيار من التيارات المتصارعة، وهو ما لا تستنكفه إحداها في ظل حالة من العداء الشديد والاستقطاب لا تخفى على أحد، ثم من الضامن أن يسير هذا المجلس على شروط  المصطافين بجانبه، باعتباره “واجبا وطنيا”؟!.

إن كان التاريخ “لا يعيد نفسه” كما تفيد المقولة الماركسية الشهيرة، فإن المقولة ذاتها تنبئنا ـ كذلك ـ أنه إن لم يكن لنا العبرة والعظة ـ وساهمنا في إعادة إنتاج هذا التاريخ ـ فإنها المهزلة الكبرى!!.

وإن كان للأستاذ قلم عزيز علينا، تتلقف كلماته عشرات الألوف وربما مئاتها من قراء “الشروق” لتذعن لأحكامها ـ بلا ارتياب أو حذر ـ ثقة بكاتبها، واحتفاءا به، فإنها وحدها النفوس النبيلة تلك التي تأنف أن تأخذ شيئا بغير بدل.


[1]  مسألة أن المجلس العسكري حمى الثورة، وجنبنا المسار الذي صارت إليه ليبيا وسوريا هي خرافة لا أصل لها، فهل كان يملك المجلس ـ عمليا ـ  خيار آخر؟! وذلك أمام الملايين الغاضبة التي غصت بهم شوارع مصر وميادينها، ولم يثنيهم عن الاستمرار في الإعلان عن غضبهم كل ما اصطنعه النظام لردعهم؛ مليون ونصف المليون جندي مركزي، اتهامات بالعمالة، وخطابات خبيثة تهدف لابتزاز عواطف الجماهير، تمطر بها سماء إعلام مضلل وخسيس، وقناصة وبلطجية مأجورون لا يراعون حرمة، ولا تأخذهم بأحد شفقة ولا رحمة، كل هذا لم يجد نفعا. وإذا فرضنا جدلا أن كان المجلس قد تجاهل روح التحدي والإصرار تلك التي ركعت أمامها جيوش النظام السابق الأمنية والإعلامية معلنة استسلامها ــ آملا في أن ينجح هو فيما فشل فيه أولئك، ومن ثم أصدر أمره بالتصدي لجموع الشعب الثائرة، فهل كان من المتوقع أن يطيع ضباط جيشنا هذا الأمر، ويتجاهلوا عقيدتهم القتالية التي تحول بينهم وبين تصويب سلاحهم إلى مدني أعزل؟!!. هل كان من المتوقع أن يطيع ضباط جيشنا أمرا كهذا، وكل منهم مدرك أنه قد يكون بين الثوار أخيه أو أخته أو ابنه أو ابنته أو…….أو……….؟! . وإذا ما افترضنا أن ذلك كان ممكن الحدوث، وأن بعضهم كان ليطيع الأمر الصادر إليه، فبالقطع كان هناك الكثير منهم سيرفض تنفيذ أمرا كهذا، لينجم عن ذلك انقسام داخل الجيش، وتقوم على إثره حرب أهلية، ويكون مَثل المجلس العسكري كمثل البطل اليهودي شمشون الذي هدم المعبد عليه وعلى أعدائه، بيد أن خيار شمشون  كان ـ عمليا ـ خيارا منطقيا، إذ فقد بصره، وأصبح معرض للهلاك فاختار أن يهلك ـ ما دام هلاكه محتوما ـ هو وخصومه، بينما كان إقدام المجلس على خيار كهذا حماقة ستذهب بريحهم، وستورد البلاد مورد الأخطار. كذلك فإن القوى الدولية ـ وعلى رأسها الولايات المتحدة، ومدى نفوذها على الجيش معلوم للكافة ـ ما كانت لتسمح بولوج دولة  بحجم مصر وثقلها الإقليمي ـ حماية لمصالحها في المنطقة ـ  إلى موطن اضطرابات لم يكن ليعلم غيره سبحانه  بميقات خروجها منه.

[2] عن الوسائل التي اصطنعها نظام مبارك لزيادة إحكام قبضته على المؤسسة العسكرية، يمكن العودة إلى “مصر بين العصيان والتفكك” ـ علم الاستبداد والطغيان، طارق البشري.

محمد السيد الطناوي

Mohamed_eltanawy@hotmail.com

 
أضف تعليق

Posted by في نوفمبر 10, 2011 بوصة مقالات

 

كلنا إسلاميون

بين “المرجعية الإسلامية” والمرجعية العلمانية

لا نهدف من وراء إجراء تلك المقابلة تبيان مدى أفضلية الأولى على الثانية، إنما نرجو الوصول بمصطلح ”المرجعية الإسلامية” إلى درجة من الوضوح تتيح لنا أن نستوعب بشكل كامل ما تدعونا إليه تلك المرجعية، وما الحدود التي ترسمها لكل من ارتضاها مرجعية نهائية له، وكيف يمكن أن يتوافق حولها الجميع؟.

كذلك لا نريد أن نسارع بوضع تعريف للمرجعية الإسلامية، إذ قد يكون من الأنسب ادخاره حتى نورد أهم السمات التي تتميز بها مرجعيتنا تلك، وقد تسهل عملية المقارنة بين “الإسلامية” والعلمانية استكشاف تلك السمات، ولتكن نقطة البداية ـفي تلك المقارنةـ التمييز بين المنطلقات التي تأسست عليها كلتا المرجعيتين، أو بتعبير أدق الأدوات المعرفية التي تشكلت المعالم الرئيسة للمرجعيتين على أساس منها.

ففي حين تولدت المرجعية العلمانية ـ على اختلاف ايدلوجياتها ـ بواسطة الحواس أو العقل كأداتين معرفيتين لا ثالث لهما، نبصر على الجانب المقابل، وهو جانب “المرجعية الإسلامية”، هذا الثالث المتمثل في الوحي المنزل من السماء، وهو يستأثر بتشكيل تلك المرجعية،  ليكسبها ذلك ثباتا لا تبدل فيه (ثباتا مطلقا)، كون أن مصدر قيمها ومبادئها ليس بشريا ـ وإنما هو المولى عز وجل ـ ومن ثم لا حيال لأي فرد أو لأية جماعة أن تتناول تلك المرجعية بالتعديل أو التبديل، بينما نجد المرجعية العلمانية وإن كانت قيمها الرئيسة تتمتع بنوع من الثبات النسبي غير أنه ليس هناك ما يمنع أن يتناولها التغيير.

إضافة إلى ذلك، فإن هذه المرجعية -العلمانية ـ سواء أكانت جزئية أم شاملة بحسب تقسيم الدكتور عبدالوهاب المسيري ـ فإما أن “لا تتفرع عنها منظومات معرفية أو أخلاقية”(1) (العلمانية الجزئية) أو تكون “المعرفة المادية هي المصدر الوحيد للأخلاق”(2) (العلمانية الشاملة)،  ومن ثم فهي في الحالتين لا تضم أي منظومة أخلاقية مطلقة، كذلك فهذه المرجعية لا تحفل بالمعنى، إنما اعتناؤها بتحقيق المنفعة فقط، واعتمادها كمرجعية نهائية يجعلنا ندور مع المنفعة أينما وكيفما دارت.

ويقودنا ما ذكرناه إلى استنتاج يفيد أنه لا محيص في أن نعتقد في مرجعية مقدسة تكون بمثابة مرجعية نهائية لنا، تحمينا من ذلك المصير الذي رصده وتحدث عنه المفكر الأميركي “إرفنج كريستول” عندما أشار إلى “البربرية العلمانية”، التي نشأت نتيجة لعجز العقل عن تأسيس نسق أخلاقي، كذلك عجزه عن ابتداع معنى يتبطن الوجدان الإنساني، ويحميه من الشعور بالاغتراب.

“الإسلامية” كمرجعية نهائية يتوافق حولها الجميع

 وإذا ما سلمنا بهذه الضرورة (ضرورة تبني مرجعية مقدسة)  سننتقل إلى نقطة أخرى ذات صلة وثيقة بما أقررناه، فإذا كانت المرجعية الإسلامية تزودنا بالنسق الأخلاقي اللازم لحياة سياسة واجتماعية متوزانة، كذلك هي تمدنا بالمعنى، فما الذي يمنع إذن أن تنطلق من تلك القاعدة المستقرة الراسخة كافة الأطياف السياسية إلى فضاء الحياة العامة من بعد؟.

للإجابة عن هذا السؤال يستلزم بداية الإشارة إلى أن “المرجعية الإسلامية” إنما مجالها ـ كما سبق الذكر ـ  هو القواعد العامة، التي وإن كانت حاكمة لعالم التفصيلات بيد أنها لا تنتمي إليه، فهذه المرجعية قد تضم من بين قيمها قيمة كقيمة العدل، إلا أنها لا تفرض -من أجل تطبيقها- توجها بعينه، فمثلا فيما يخص المجال الاقتصادي، واستنادا إلى تلك المرجعية، هناك من الفقهاء الذين أدلو بدلوهم في هذا الجانب من ارتأى أن “الحق الوحيد في المال هو الزكاة”(3)، وأن ليس على المسلم إن أداها شيئ آخر “إلا ما تطوع به”(4)،(وهو ـ للأسف الشديد ـ التوجه الأشهر في الفقه الإسلامي الذي يتناول هذا الجانب).

وفي مقابل هذا الاجتهاد نجد أن هناك من رأى أنه “إذا جاع مسلم فلا مال لأحد”، وهو عمر بن الخطاب (رضي الله عنه وأرضاه)، وهو القائل كذلك “لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين”.

ومن أصحاب هذه المدرسة أيضا، والتي توافقت على أن للمسلم حقوقا أخرى واجبة يؤديها للدولة غير الزكاة أبو ذر الغفاري، وابن عمر، والإمام علي (رضوان الله عليهم)، وفي عصرنا الحديث السيد جمال الدين الأفغاني، وأصحاب هذا التوجه تتخذ سيرتهم (أقوالهم وأفعالهم) مسارا مباينا لأصحاب الاجتهاد السابق ذكره.

إذن فإن كانت هذه المرجعية قد أقرت مبدأ العدالة، إلا أن ذلك لم يمنع أن يبرز من بين معتنقيها من يقول بالرأي الأول، معتقدا أنه يحقق هذا المبدأ، بينما رأى آخرون ـ ممن استندوا لذات المرجعية – أن لا سبيل للعدل إلا بتمثل الرأي الثاني.

وبعد ذكرنا لتلك الملاحظة التي كان من الأهمية بمكان إيرادها ليستقيم حديثنا، (ونستهدف من وراء الإتيان بها إبراز مدى سعة هذه المرجعية، وأنها يمكن أن تضم تحت مظلتها أصحاب الرؤى المختلفة، ليس فقط في المجال الاقتصادي، وإنما في شتى المجالات الأخرى)، فلنرصد أهم العوائق التي تحول دون  توافق الجميع حول المرجعية الإسلامية كمرجعية نهائية.

  هناك من بين القوى السياسية التي ترفع اللافتة الإسلامية من يغويهم التلبس بالمقدس، فيدفعوا بآرائهم النسبية إلى دائرة المطلق (وهي مساحة محدودة إلى حد كبير)، ليضيقوا واسعا، وتتبدى ـ تلك الدائرة ـ للآخرين كطوق مقيد ينفروا من الدخول فيه، ويأبوا أن يتنكبوا سبيل تلك المرجعية، إذ يبصروها تتحدث بلغة مخاصمة للغة العصر (فهذه الآراء التي تزج بها تلك الجماعات والقوى السياسية إلى دائرة المطلق غالبا ما تكون مستجلبة من كتب التراث، وربما لهذا يحيطونها بهالة القداسة فالتراث يمت بصلة رحم للمقدس، وسوف يدفع تعريفنا للمرجعية الإسلامية هذا العائق، بترسيم حدود واضحة لها).

 وهنا لا يجد البعض غضاضة في أن يتبنى مرجعية نهائية ـ علاوة على أنها لا تثقل كاهله إلا بما ألزم به نفسه ـ تعده إن هو طلق الغيبيات والمطلقات بالفردوس الأرضي، وهي المرجعية العلمانية.

وهذه النقطة تفتح لنا بابا لندلف منه إلى العائق الثاني الذي قد يحول بين دعوتنا في أن تكون المرجعية الإسلامية مرجعية نهائية لكافة الأطياف السياسية وبين تلبيتها، ويتمثل في الاعتقاد السائد ـ لدى دعاة العلمانية ـ في الربط الحتمي بين الحداثة والعلمنة، وما من شك أن هذا التلازم  ـ في إطار التجربة الغربية ـ كان ضروريا، فلم يكن ليتلون شفق تلك المجتمعات الغربية بألوان الحداثة الزاهية إن لم تعتملها يد العلمنة، إذ أن الكنيسة -التي كانت تحتكر التحدث باسم الدين- قد سعت لفرض إرادتها ورؤاها (المقدسة) على كثير من جوانب الحياة في الغرب، ومن ثم مثلت تلك الرؤى -غير العلمية ـ عائقا أمام النهضة والتنوير والحداثة، لذا كان من الضروري إحداث نوع من المفاصلة بين الكنيسة والدولة، وبالتبعية المفاصلة بين الدين والدولة، لتنطلق مسيرة النهضة والتنوير والحداثة من بعدُ.

 لكن هذه الضرورة التي نشأت وترعرعت في الغرب، لا مجال لاستنساخها في بلادنا، لأن مبررات فرضها هناك لا تتوافر داخل بيئاتنا العربية الإسلامية، (وهي مسألة أسهب في تناولها العديد من الكتاب والمفكرين الإسلاميين، فلا حاجة بنا إلى التكرار) ومن ثم تكلف استجلابها والإصرار عليه، عوضا عن أنه لن ينجم عنه إلا مزيد من التباعد بين النخبة التي تصر على ذلك وبين الجماهير- فهي محاولة غير علمية أيضا.

 تعريف “المرجعية الإسلامية”

وإذا كان ذلك كذلك، يبقي أن نشير إلى ما يعنيه هذا المصطلح “المرجعية الإسلامية”؟ ( إذ رغم تداوله كثيرا في ساحاتنا الفكرية والسياسية غير أنه مازال يكتنفه الغموض وعدم التحديد).

من خلال ما سبق ذكره نستطيع أن نثبت لمرجعيتنا تلك السمات التي ذكرناها فيما سبق أعلاه، وهي كونها قواعد عامة، وكذلك سمة الثبات المطلق الذي تتمتع به مبادئها وقيمها، فلننطلق بعد ذلك لوضع تعريف لها، يرسم حدودها بدقة، ويقيها شر إدخال ما ليس منها عليها (وهو ما دأبت على القيام به بعض القوى التي تنتمي إليها ).

إذن يمكن أن نعرف هذه المرجعية بأنها “الأصول العامة المطلقة، والتي تحتوي علي مضامين أخلاقية، وفلسفية، وتشريعية، مصدرها الدين الإسلامي ( وتشاركه في كثير منها الأديان السماوية الأخرى)، وهذه الأصول العامة المطلقة تحكم بصورة مباشرة وغير مباشرة (عبر تجنب ما قد يتعارض تعارضا قطعيا مع ما تدعو إليه) كل فعل يقوم به معتنقيها، وتُعني تلك المرجعية بالدرجة الأولى بتحقيق مصالح الناس”.

والمرجعية الإسلامية -كما قدمناها في التعريف السابق- لا تقف حائلا بين أي تيار أو جماعة وبين أن تبدع أو تتبنى ما عنى لها من فكر، أو فلسفة، أو تشريع تتحقق به مصالح الناس، بما لا يتعارض مع المطلق، (وهي مساحة محدودة إلى حد بعيد)، بل ربما إن جمود وتمسك هذه الجماعة أو تلك  بأية فكرة، أو فلسفة، أو تشريع، يتصادم والمصلحة العامة، وفي ذات الوقت لا يتعارض مع المطلق -تعارضا قطعيا- يفقد هذه الجماعة شرطا هاما من شروط إسلاميتها.

وإسلامية أية جماعة أو حزب إنما تتوقف بدرجة أكبر -وفق التعريف المقدم- على مدى بلائه وقدرته في خدمة مصالح الناس، فالجماعة أو الحزب الذي تتحقق بسياساته المصلحة العامة هو الأكثر إسلامية من جميع القوى الأخرى.

والمرجعية الإسلامية وفق هذا التعريف أشبه  بشمس مشرقة لا تأبى أن ترسل بأشعتها إلى كل من تطلع إليها، متمنعة فقط عن أولئك الذين اتخذوا حجبا كثيفة، أو حجرات مغلقة تمنعهم  نورها الوضاء (من تتغذى أفكارهم  من رؤى تتعارض تعارضا قطعيا مع الأصول العامة المطلقة التي قعدتها المرجعية الإسلامية).

وختاما نشير إلى أن تلك الدعوة لا تصبو  ـ فقط ـ لتقليص مدى الشُقة القائمة بين النخبة ـ في بلدنا ـ وجماهيرها، بل هي ـ كذلك ـ تستهدف تأسيس قاعدة ارتكاز تستند إليها النهضة المرجوة لبلادنا، إذ أن للنهضة وجها ثقافيا، لا تستبين ملامحه إلا عبر الشعور بالتمايز عن الآخر، ويغذي هذا الشعور –بالطبع- مدى وعي الجماهير بشخصيتها التاريخية، والتي يقف الإسلام في القلب منها لا يزاحمه في ذلك أي مكون آخر من مكونات تلك الشخصية.

1 الدكتور عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، دار الشروق، الجزء الأول، الطبعة الثانية، ص220

2 المصدر السابق، ص220

3 د.يوسف القرضاوي، فقه الزكاة، الجزء الثاني، مؤسسة الرسالة، ص963

964 المصدر السابق، ص

 
3 تعليقات

Posted by في أكتوبر 6, 2011 بوصة مقالات

 

النخبة .. والشباب

ظلوا طوال عقود مضت يتخبطون في خلافاتهم وصراعاتهم، ويعتصرون جل طاقاتهم لتصب فيها، ويتنقلون من سُلم إلى سُلم (سلم نقابة الصحفيين، سلم دار القضاء العالي، سُلم……….، وأعتقد أن الإصرار على التظاهر من على السُلم راجع إلى أنه لوكان مكان التظاهر الشارع مثلا لما ظهر جميعهم في كادر الكاميرا)، ومن مصطبة فضائية إلى أخرى(برامج التوك شو)، ويستزرعون المقالات والفصول التنفيسية في صحفهم وكتبهم، لنهزها فلا يتساقط علينا منها سوى ثمرات ذابلة هزيلة، لا تسمن ولا تغني من جوع للتغيير.

وكثير منهم طالما ارتضى شاكرا الفتات الذي كان يلقى إليه ـ بين الحين والآخر ـ من قبل النظام؛ بعضهم كان يلملمه مبديا التذمر والسخط لقلته، وقليل  من كانت تزجره العفة عن فعل ذلك، ولم يكن أحد من تلكم الفئتين السابقتا الذكر ليتورع عن تلبية دعوة من النظام البائد لحوار أو جلسة أو صفقة، رغم علمه الأكيد أنه لاطائل منها، فهذا كان دأبهم، وتلك كانت سيرتهم.

واحترفوا في السنوات الأخيرة التي سبقت الثورة إنشاء الحركات، فأنشأوا العشرات منها، وما كانت غير كهوف تنبعث عبرها الروائح العفنة لأنواتهم المتضخمة، وهل كان لأيا منها برنامج عمل موضوع يستهدف التغيير حقا؟!.

وكان يتبع كل إعلان عن حركة من تلك الحركات إعلان آخر عن حركة أخرى تبشر بذات الهدف، ليعتلي منصة الإعلان عنها ذات الوجوه. (فكلما أسسوا حركة صحبها ـ بالطبع ـ مؤتمر صحفي ينقل إلينا ذلك الحدث الهام!!، وتتداول وسائل الإعلام أخبارها لفترة، لتدفن بعد ذلك إلى جوار أخواتها السابقات، لتبدأ الكَرّة مرة أخرى، وهكذا دواليك).

ثم كانت الثورة ليتدافع هؤلاء ممارسين ذات الدور الذي احترفوه على مدار العقود السابقة، إذ ما عاد بمقدورهم بعد طول عهد اضطلاعهم بدور المحلِل (لاستمرار شرعية النظام) أن يضطلعوا بدور غيره، فإذ بهؤلاء والثورة لم تكد ترقى من سُلم الخلاص ـ من النظام البائد ـ غير درجات قليلة يتوافدون في جماعات، ملبين دعوة النظام إلى الحوار. منهم من استحى فاستتر (في جلسات سرية مغلقة مع عمر سليمان لم يكشف عنها بعد)؛ ومنهم من كان ودع الحياء وداعا بائنا منذ زمن طويل، فما كان يعنيه الاستتار من عدمه؛ ومنهم من أذهب حجم المكاسب والمغانم التي تصور أنه جانيها ـ من وراء تلك الثورة الناشبة ـ عقله، فلم يعن بستر أو استخفاء، وصاحبهم قلة من الثوار الشباب الذين ذهبوا ليبحثوا عن دور لهم. (فما من شك أنه قد بلغ سمعهم هتاف إخوانهم في التحرير “لاتفاوض قبل الرحيل”، وعادوا بعد ذلك إلى أقرانهم محذرين وواعدين ومتوعدين بالويل والثبور إن لم يتم إخلاء ميدان التحرير).

ثم كان التنحي، لتفتح ساحات العمل السياسي على مصراعيها، لمن أراد وقدر عليه، لكن ما أشبه الليلة بالبارحة!!، ذات الصورة القديمة، وذات الوجوه تتصارع وتتجادل وتخوض غمار معاركها النخبوية، وبعيد زوال غمار تلك المعارك الطاحنة، يتقدم البعض ممن لا يزال يأمل خيرا في أولئك ليستجلي الأمر، ويحصي ما قد اغتنمه أي من الطرفين المتصارعين لنا أو لأنفسهم، فإذا بالإحصاء يفضي بهم ـ في كل مرة ـ إلى صفر ممزوج بالمرارة والأسى.

لكم أتمنى أن يُعرض الشباب ـ المزمع خوض غمار الحياة السياسية ـ عن تلك الكيانات التي يظللها مثل أولئك بظلالهم، فلن ينتفعوا ولن ينفعوا من خلالها أحد، فمثل هؤلاء لا ينتمون إلا لذواتهم، وما كياناتهم ـ التي يقودونها سواء أكانت أحزاب أم جماعات أم حركات ـ وأيدلوجياتهم سوى سيوف وحراب يستعملونها في القتال مع بعضهم البعض لا أكثر، ولن يقبلوا ممن يتبعونهم ـ إذا ما ارتضوا قيادتهم تلك ـ سوى أن يكونوا قطعانا، أينما أشاروا إليهم بعصا خبرتهم وحكمتهم المزعومة اندفعوا مهرولين إلى حيث يشيرون . لن يرتضوا بأقل من ذلك. فدعوها إنها منتنة، وانطلقوا في فضاء الحياة السياسية، لتقيموا بها من الأطر ما لا تظله إلا سماء نفوسكم الصافية.

mohamed_eltanawy@hotmail.com

 
أضف تعليق

Posted by في جويلية 7, 2011 بوصة مقالات

 

الينابيع المسمومة

أحب الكتابة دوما في حضرة التفاؤل، فصحبته تسعدني، وتغمر نفسي سرورا وحماسة، لكن استدعاؤه ـ في أغلب الأحيان ـ ما يكون أمرا عزيزا، لذا أجدني مضطرا إلى الكتابة ـ في أوقات كثيرة ـ وأنا وحيدٌ فاتر الهمة، غير أني لا أنفك أحاول تخطي تلك الحالة متعكزا على مقولة قرأتها مؤخرا لأحد الفلاسفة، إذ يقول بأن “التشاؤم هو علامة الضعف والانحطاط، والتفاؤل هو علامة السطحية في التفكير وقصر النظر”، فما حاجتي ـ إذن ـ لذاك التفاؤل الذي هو سطحيةٌ وقصرٌ في النظر؟!. هكذا حاولت إقناع نفسي، لعلها تقتنع وتُقبِلُ على فعل هو أحب الأفعال إليّ؛ فعل الكتابة، وها أنا في غيبة التفاؤل ـ وقد طاوعتني تلك النفس العنيدة ـ أكتب متسائلا:

أمن ضرورة الحياة السياسية هذه الينابيع المسمومة؟! وما هي؟ إنها الالتواء والخداع، والنفاق والرياء، والتمركز الطفلي حول الذات . . .

كان ظني أن هذه الينابيع سيجف كثير منها بعد ثورة عظيمة أبرئت نفوس كثيرين من أمراضها، وسقت قلوبنا الطهر، وأبصرنا عبرها عظمة قدرة المولى عز وجل فتدفقت كالجداول أشواقنا للتغيير؛ لتغيير أحوالنا التي ألفناها وما ألفتها الفضيلة، ليتم الله نعمته علينا من بعدُ فيستحيل التغيير المأمول إلى حقيقة واقعة. أو هكذا ظننت.

لكن بعض الظن سذاجة.

فما أن أجازت الثورة حزبا من بين ما أجازته من الأحزاب، حتى تلبد صفاء أديم وجه أحد قياداته بالغيوم، ليمطر أعضاء حزبه بأحاديث باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، ويرعد في وجوههم بتصرفات صادمة يندى لها جبين كل حيي. ويبرق بألاعيب تشبه ألاعيب الحواة، أو هكذا يظن، وما ينخدع بها إلا البله والمعاتيه.

وحزب آخر حملت قياداته فوق رأسها لوح شريعتها، ومضت تبشر بها، وما انتفع حزبها من ذلك شيئا، إذ أن المسطور عليه ليس ـ كما يظن مرتادي ذلك الحزب ـ فكرة أو رؤية أرادوا هم إذاعتها في الناس، وإنما كتب عليه كلمة واحدة أنا ثم أنا ثم أنا ثم أنا . . . ..

وآخرون ينتمون إلى تيار سياسي ثالث ما فتأوا يتجشأون الفضيلة في وجوه الناس، وإذا ما خلوا إلى بعضهم البعض قالوا إنما نحن مستهزئون، والشعب الثائر يستهزئ بهم، إذ أن الرغبة المضطرمة في نفوسهم إلى القوة والسيطرة قد نهشت تلك الأقنعة التي أحكموا وضعها على وجوههم القبيحة، ولا تلبث أن تسقط لتستبين أمام أعين الناظرين جميعا.

وآخرون. . . .وآخرون. . . . .

ما حديثي الغاضب ذاك بحديث تنفيسي أطلقه على ورقة لتهدئ نفسي وتثوب إلى حالتها الطبيعية، إنما أتطلع عبره إلى تحذير الوافدين الجدد إلى تلك الساحة؛ الساحة السياسية، أولئك الذين أحدثوا في بلدهم حدثا قلما كان له نظيره في تاريخنا الموغل في القدم، ولهؤلاء أقول:

ـ ليكن انغماسكم في تلك الساحة متشحا بالحذر والحيطة، ولتتلفعوا بسوء الظن، فإن كان بعض الظن إثم فالبعض الآخر من حسن الفطن.

ـ لتحافظوا على نقاءكم الثوري، ولتبحثوا عن أشباهكم. لتلتصقوا ببعضكم البعض فتُعجِزون تلك الأنوات المتوحشة التي تمخر عُباب ذلك العالم، عالم السياسة، باحثة عن خدم وأتباع.

ـ ولتكن تلك الوجوه الباسمة لإخوانكم الذين هم عند ربهم أحياء يرقبون ماثلة أمام أعينكم دوما.

ـ وحذاري أن تجزعوا من تلك التشوهات الخُلُقية التي ضربت أطنابها في نفوس تلك النخبة، وترهبكم سطوتهم فتفروا فزعين. لا تكونوا كفاتلي الحبال يحبكوا الخيوط لينسحبوا من بعدُ إلى الوراء.

وليعذرني القارئ إن غلف بعض حديثي الاقتضاب، وغشيه الرمز، وسكنه الغموض، فما استهدفت التشهير، وإنما قصدت التنبيه، إذ في ظل هذا الجو المسموم فلسوف تتهرأ كل عاطفة نبيلة، وتذبل كل حماسة، وتسود عقيدة الأنا.

وأقول نهايةً أنه رغم ما سُقته من نماذج ووقائع قد تضفي شئ من الكآبة على القارئ الكريم، إلا أنني متفاؤل بعد أن أنهى الوافدون الجدد ـ على الساحة السياسية ـ احتكار سياسيو العصر البائد لها، متفاؤل وأنا أبصر من بين النخبة ـ وإن كانوا قلة ـ من جعل من خبراته وعلمه ربوة يعتليها الشباب ليشرفوا على المستقبل، متفاؤل رغم أنف فيلسوفي صاحب المقولة السابقة الذكر أعلاه.
mohamed_eltanawy@hotmail.com

 
أضف تعليق

Posted by في جوان 19, 2011 بوصة مقالات