RSS

Monthly Archives: فيفري 2012

نحو “إسلامية تقدمية”(2) ـ إضاءات


مدرسة تطاولت قامات رموزها فبلغت مسارح النجوم، زرعوا بأفكارهم ورؤاهم كل نبت قد ينبت أسمى ما تصبو إليه مجتمعاتنا، لكن الاستبداد بأنظمته ـ عبر العصور ـ أبى إلا أن يئد تلك الأفكار والرؤى، فلا يُسمع لها غير صوت هامس، لا ينفذ إلا لأشد الأسماع انتباها. وفي المقابل أتاحت تلك الأنظمة للإسلامية التقليدية أن ترعد أفكارها في سماء بلادنا، حتى كادت تصم آذان الناس، فلا يسمعوا صوتا لغيرها، وما استتبع إرعادها ذاك شئ من خير ـ كثير أم قليل ـ يهبط إلى مجتمعاتنا فتغنى به عما سواه.

نعم هذه مدرسة رغم سموق قامات روادها، ورغم تفردهم بين نظرائهم، كلٌ في العصر الذي كانت به حياته، غير أن آرائهم قبرت ـ على الدوام ـ فلم يتردد صداها في حياة الناس، باستثناء الفترات التي قدر لأحدهم أن يحوز سلطان تنفذ به آرائه إلى أرض الواقع، ونادرا ما كان يثقل القدر كاهل أحدهم بشئ من سلطان، إلا على أتباعهم ومريديهم الذين آمنوا بما بعثوا به وصدقوه، ثم لم يألوا جهدا في نشره بين الناس.

ومن بين هذه الندرة التي ملكت السلطة فأنفذت رؤاها إلى مجتمعها سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه وأرضاه). هذا المتفرد العظيم، الذي تتعدد جوانب تفرده وتميزه فلا نكاد نحصيها، ويعنينا في هذا الموضع أن نسلط شعاعا من ضوء على جانب من جوانب هذا التفرد، وهو إقراره للمنطلق الأول من منطلقات تيارنا، “الثورية أو الجذرية كمنهج تغيير”، إذ عددت لنا سيرته مواقف تؤكد على هذا المنطلق، لعل أشهرها تلك الرواية التي سأل الناس فيها أن يقوموه إن رأوا فيه اعوجاجا، فقال له أحدهم:”والله لو علمنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا”، فحمد الله أن جعل في المسلمين من إذا جار عمر قومه بسيفه.

حاكم يقر الخروج ـ بالقوة ـ على نظامه إن شابه ظلم أو طغيان!!.

إن هذا النموذج الفريد ربما لا يكون له نظيرا، ليس فقط في تاريخنا بل في تاريخ الإنسانية جمعاء. ويتصدر تيارنا الإسلامي التقدمي ذاك المتفرد، كيف لا؟ّ!، وهو أول من رسخ لتلك الفكرة في المجتمع الإسلامي الأول، فكرة التقدمية.

هو المجتهد الثاني ـ كما وصفه الأستاذ العقاد ـ بعد رسولنا الأكرم صلوات الله عليه وسلم)، فالصحابي الجليل هضم الماضي (التجربة النبوية)، ثم انطلق في آفاق الحاضر يجتهد رأيه، لا تابعا لرأي غيره حتى لو كان رأي المعصوم (صلى الله عليه وسلم) ـ وذلك في أمور كثيرة ـ مدركا ضرورة التغيير لمواكبة تغيرات الواقع، متطلعا إلى المستقبل، فقد كان حاضرا لديه ( من ذلك اجتهاده في مسألة تقسيم أرض السواد، إذ رفض عمر “رضي الله عنه وأرضاه” أن يقسم الأرض كما سبق وفعل رسولنا الكريم بأرض خيبر، مبررا رأيه ذاك بحفظ حق الأجيال القادمة، إضافة إلى خوفه من مفاسد قد تنشئ عن توزيع الأرض).

وإذا كنا نجد المنطلق الأول من منطلقات “الإسلامية التقدمية” حاضرا في التجربة العمرية، فكذلك حال المنطلقات الثلاث الأخرى ( العدالة الاجتماعية كنظام اجتماعي، الديمقراطية كنظام سياسي وـ بالقطع ـ الإسلامية كمرجعية نهائية)، كما شكلت هذه المنطلقات ـ التي عددناها ـ القضايا التي تمحورت حولها سير رواد تيارنا الأوائل جميعهم، أما المنطلق الرابع “القومية العربية كتطلع وحدوي” فقد ادخره التاريخ ليبسطه في العصر الحديث، فيندفع مفكرو عصرنا ذاك ليدلي كل منهم بدلوه ـ في تلك المسألة ـ بما يتفق وتوجهه الفكري.

فمنهم من شيد بناء القومية العربية على أساس من الجنس أو العنصر، ومنهم من نبذ هذه الفكرة ـ جملة وتفصيلا ـ على أي أساس من الأسس، وعدها دعوى جاهلية، ليتطرف هؤلاء على الجانب المقابل، وهو الموقف الذي تمترست وراءه “الإسلامية التقليدية”، بينما نحى أعلام تيارنا (السيدان جمال الدين والكواكبي) منحى مغاير لهذين المنحيين المتطرفين، فكان مذهبهما في القومية قائما على رؤية مفادها أن العربية هي لسان وآداب وثقافة، وطريقة للعيش في شتى نواحيه، و”أن كل أمة ينبغي أن تتمسك بجامعتها القومية، وأن ذلك لا ينافي الإسلام في شئ” (كما قال مولانا جمال الدين)، وأن للوحدة دعائم عدة لابد أن تتوافر حتى يرتفع بناءها راسخا شامخا.

“الإسلامية” و “التقدمية” ـ ماذا نقصد بهذين المصطلحين؟

الإسلامية لدينا هي “الأصول العامة المطلقة، والتي تحتوي علي مضامين أخلاقية، وفلسفية، وتشريعية، مصدرها الدين الإسلامي ( وتشاركه في كثير منها الأديان السماوية الأخرى)، وهذه الأصول العامة المطلقة تحكم بصورة مباشرة وغير مباشرة (عبر تجنب ما قد يتعارض تعارضا قطعيا مع ما تدعو إليه) كل فعل يقوم به معتنقيها، وتُعني تلك المرجعية بالدرجة الأولى بتحقيق مصالح الناس”.

والإسلامية تبعا لهذا التعريف تأبى أن تكون قاصرة على جماعة دون أخرى، أو تيار دون آخر، إذ تفتح ذراعيها لجميع التيارات ليدخلوا تحت عباءتها، شريطة أن يبتغوا المصلحة العامة (فحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله كما قال الإمام ابن القيم)، وألا تتعارض الأفكار التي يروجوا لها تعارضا قطعيا مع مطلقات المرجعية الإسلامية، ومن ثم فهذه المرجعية لا تقف حائلا بين أي تيار أو جماعة وبين أن تبدع أو تتبنى ما عنى لها من فكر، أو فلسفة، أو تشريع تتحقق به مصالح الناس، بما لا يتعارض مع المطلق….” *.

 وهنا نستطيع القول بأن دعاة المرجعية الإسلامية الذين يقدمونها بحسبانها أيدلوجية في مقابل ـ على سبيل المثال ـ الاشتراكية أو القومية…، هم جاهلون تماما بماهية المرجعية الإسلامية، بل ومتاجرون بها (وأغلبهم كذلك)، فهي مظلة تتسع لمختلف التيارات الفكرية، ومن ثم التعامل معها باعتبارها أيدلوجية ضيقة ذات  توجه محدد، وإيهام الجماهير بذلك، هو نوع من الدجل والشعوذة الذي تمارسه القوى الإسلامية.

وإذا انتقلنا لتوضيح ماذا نعني ب”التقدمية” في تيارنا؟ سنجدها تقوم على دعائم ثلاث:

أولا: استيعاب الماضي، بمعنى الاطلاع على التراث وهضمه بشكل كامل، ثانيا: مواكبة تغيرات الواقع والتعاطي معها بما يتفق والشخصية الثقافية التي تشكلت على أساس الدعامة أو القاعدة الأولى، أما الدعامة الثالثة فتتمثل في التطلع دوما إلى المستقبل، والاهتمام بالمصير.

أهمية وجود هذا التيار: (السمات المميزة)

هذا التيار ـ الذي ندعو لإنشائه ـ هو تيار قائم على أسس مدرسة فكرية أصيلة تمتد جذورها في عمق تاريخنا العربي الإسلامي، يحمل فكرة واضحة محددة المعالم والمنطلقات، وهو أمر ـ بكل تأكيد تفتقده الأحزاب والجماعات التي تنتمي لذات الدائرة؛ الدائرة الإسلامية، إلى جانب ذلك فالمنطلقات التي نتحدث عنها هي بمثابة دعائم لمشروع النهضة المأمول، بل لا يستطيع أي مشروع نهضوي متكامل أن يتجاهل أيا من العناصر التي عددناها كمنطلقات لتيارنا (وهي الثورية أو الجذرية كمنهج تغيير، العدالة الاجتماعية كنظام اجتماعي، الديمقراطية كنظام سياسي، القومية العربية كتطلع وحدوي، والإسلامية كمرجعية نهائية).

إضافة إلى ذلك هناك أهمية عملية لوجود هذا المشروع ـ في المرحلة الراهنة ـ على الساحة السياسية، فمن الواضح أن جزءا كبيرا من مجتمعنا يتجه بقوة نحو الإسلامية السياسية، وذلك رغم عدم الوضوح الذي تتسم به أطروحات القوى المتبنية تلك المرجعية، واتخاذهم مسارا سياسيا مخالفا ـ ولن نقول معاديا ـ للمسار الثوري، فهذه القوى جميعها هي ربيبة “الإسلامية التقليدية”، والتي لطالما كانت معادية للنهج الثوري، (وهذا التوجه نحو تلك القوى راجع ـ في جزء كبير منه ـ إلى أنها هي المتواجدة بحق على أرض الواقع، والمتواصلة بقوة مع الجماهير عبر العمل الدعوي والدور الاجتماعي والخدمي البارز الذي تقوم به، في المقابل نبصر التيارات المنافسة خلو من مثل هذا التواجد أو ذاك التواصل!)، ومن ثم نحن نزعم أن هذا التيار (وهو ينتمي لذات الدائرة) إضافة إلى كونه ـ في أفكاره ـ الأكثر ملامسة لتطلعات الجماهير سيكون بمثابة المنقذ لهم من الصراع الناشئ داخل ذواتهم الناجم عن توجههم نحو قوى لا تعبر بشكل كامل عما يصبون إليه.

وإلى جانب كل ما ذكرنا نعتقد أن تيارنا ذاك قد يمثل النافذة التي يطل منها ـ من جديد ـ تيار أصيل، اختفى من حياتنا السياسية، أو أصبح وجوده ـ رغم أصالته تلك ـ وجودا هامشيا بها، وهو التيار القومي.

وفي الختام نشير إلى أن كون هذه المدرسة تمثل الإسلامية الحقة، هي حقيقة توشك أن تكون واضحة بذاتها، إذ ليست بحاجة إلى برهان يقوم على صوابها؛ لأن كل إنسان مؤمن ـ صاحب عقل ـ يدرك أن الأديان ـ بصفة عامة ـ لم تبعث بها السماء لتقر ظلما واقعا على العباد؛ ليس فقط ذاك الظلم الذي يجنيه الإنسان على نفسه بعبادته غير مولاه الذي خلقه، بل الظلم بشتى أنواعه، (فحاشا لله أن تقر الإسلامية الحقة إطاعة حاكم مستبد فاسد فاسق …..!!، وحاشا لله أن تكبل ـ تلك الإسلامية ـ يد الدولة في مواجهة ثروات تتضخم ـ ما دام أصحابها قد أدوا زكاتها ـ وهناك بالمجتمع من لا يجد قوت يومه!!، وصدق القائل* “إذا جاع مسلم فلا مال لأحد”، وحاشا لله أن تتناول هذه الإسلامية واقعنا بآراء قد أصابها البلى من جراء تداولها عبر القرون، وهذا رأي صواب لا يحتمل الخطأ.

*عمر بن الخطاب (رضي الله عنه وأرضاه)

 
أضف تعليق

Posted by في فيفري 15, 2012 بوصة مقالات

 

لغة النار

هي لغة النار إذن.. نعم هي لغتي منذ اليوم!. مادام صوت الخنوثة قد علا، فتردد دويه في أرجاء الوطن!، مادامت الخيول الخصية ـ على عكس ما ينبئنا المثل البدوي ـ تصهل في وجوهنا!!.

هي لغة النار إذن ما دام سياسيو العصر البائد ـ على عهدهم ـ يمارسون العهر علانية!، فلا زاجر لهم من دين أو ضمير أو وطنية!.

وأنى يزجرهم ذاك ـ اليوم ـ وقد لاحت أمام أفئدتهم الظمأة سراب المغانم!، فاندفعوا ـ لا يلوون على شئ ـ يتسابقون إليه لعله يصدقهم!!، وكانوا بالأمس القريب ـ أبدا ـ لا يأنفون اقتراف تلك الفحشاء وقد صعر لهم الأمل خده!.

بيد أن بعضهم كان يستتر، أما اليوم فلا ستر ولا حياء!، بل هو السعار أصابهم!، فمضوا كالكلاب الضالة يعوي بعضها على بعضها!، متحلقين حول عظمة ألقي بها إليهم!!.

هي لغة النار إذن وأنا أبصر عبيدا غريبي الأطوار، قد نصّبوا الأنصاف والأشباه أسيادا لهم!، وبذروا جهدهم في أرض أسيادهم البور فلم تثمر إلا الخيبة والحسرة، ليداوم هؤلاء العبيد على خدمة أسيادهم أولئك كأنها قدر لا راد له!!. وإذا ما سائلت أحدهم ما الذي يسوقك إلى ذلك أيها العبد الشقي؟! أخبرك (لا فض فوه) أنه يخدم الفكرة، لا هؤلاء!.

أي فكرة؟! أفقاعة الهواء تلك هي الفكرة؟! أهي هي التي أنبئنا عنها هيرقليطس أنها أغلى عليه من عرش فارس؟!.

إن أولئك كمثل أهل الكهف في أمثولة أفلاطون الإلهي؛ لم يحتط الخيال لخداعهم بل مر ـ يتهادى ـ أمام أبصارهم، ليخيل إليهم أنه حقيقة لا مراء فيها، فاعتقدوا بها!!.

هي لغة النار إذن وأنا أشاهد القسمة غير العادلة بين خنوع “نعم” وتمرد “لا”!.

هي لغة النار إذن وأن أرى الفضلاء يعاقبون على فضيلتهم مرة تلو المرة، حتى لتكاد الفضيلة تبارح أرواحهم، كما يبارح الدخان النار إذا همدت!.

هي لغة النار إذن وأنا أرقب الهوام تطن في كل مكان، ليصيب طنينها الثوار الأصلاء بالصداع والغثيان، فيسارعوا إلى العزلة!.

ومن هؤلاء الأصلاء؟!، انهم من لا يفاخرون بالثورة، إذ لا يفاخر بها إلا العبيد، أم أولئك فقد جبلوا من نارها، فهي أصيلة في تكوينهم.

هي لغة النار إذن وقد أحاطت أبصار الساكنين مطالع النور وادينا ــ بنظرات ملؤها الأسى والغضب!، إذ أبصروا المسوخ الباردة تنقع غلتها من نهر شقه هم، وأسالوا فيه دمائهم، لتروي الأرض العطشى، فتنبت ـ لأهاليهم ـ حرية وكرامة وعدالة، لكن هذه المسوخ عز عليها أن يظلل الناس هذا النبت الشريف!!، فتكرعوا في وجوه الجماهير ـ بعد أن ارتوت عروقهم ـ أقوالا وأفكارا مسمومة، سممت عقول الكثيرين، وأفسدت عليهم رجولتهم، فأضحوا خصيان ـ لا يثيرهم شئ ـ تسيرهم تلك المسوخ الباردة المخنثة!!.

هي لغة النار إذن. نعم هي لغتي منذ اليوم.

 
أضف تعليق

Posted by في فيفري 14, 2012 بوصة مقالات

 

عام من الثورة . . ماذا بعد؟

عام مر على بدء الثورة، تغير فيه وجه الحياة بمصر، بل ـ على الأحرى ـ دبت إليها الحياة من جديد ـ بعد استغراق في غيبوبة طال أمدها ـ لتنهض متعكزة على عزيمة أبنائها، لكنها نهضة يشوبها الضعف والقلقة، فلا يؤتمن معها أن تنتكس، لذا فهي في أمس الحاجة لصلابة أعواد أبنائها جميعهم، تستند إليهم ـ فتستقيم وقفتها ـ لتتقدم بخطى ثابتة نحو مستقبل واعد.

وخلال هذا العام تغيرت ـ ببلدنا ـ ديموغرافية الحياة السياسية؛ لتختفي قوى وتبرز أخرى وتتضاءل ثالثة. بعضها يأبى إلا أن يستكمل مطالب الثورة، ليدفن ذلك النظام الطاغوتي بأكمله، ويقطع دابره مرة واحدة وللأبد، والبعض الآخر قد قعد به ضحالة طموحه وضعف خياله ـ ولن نقول قعدت به أطماعه ـ فرأى أن ما حصلته الثورة ـ ولن نقول ما حصله هو ـ من مكاسب كاف، وأن لا حاجة للصدام مع النظام ففي الصدام مخاطرة، وفي المخاطرة احتمالات الخسارة قائمة، وأولئك يتطيرون من مجرد احتمال حدوثها.

وإذا انتصرنا إلى الرأي القائل بأن الثورة لم تكتمل ـ ونحن عليه ـ فهذا يعني أن البلاد لم تمر بعد من عنق الزجاجة، وأن المرحلة القادمة بالغة الدقة والحساسية، لذا

 فعلينا التوقف عند الفترة الماضية لنسترجع أحداثها، متناولينها بالتحليل، ليكون تحليلنا ذاك سبيل هداية لمن أرتأى استكمال السير في ذلك الطريق الذي شقه شهدائنا الأبرار بدمائهم الذكية.

بداية لابد أن نحدد القوى الفاعلة في المشهد السياسي اليوم، وهي ـ على الترتيب بحسب درجة الفاعلية على الساحة السياسية ـ المجلس العسكري، والقوى الإسلامية، والنخبة الليبرالية واليسارية، والحركات والائتلافات الشبابية، ورغم أن هذا التقسيم ليس مطابقا ـ بدقة ـ لما هو كائن على أرض الواقع، لكن اعتماده ضروري حتى نتخذ سبيلنا إلى تحليلنا ذاك.

لا شك أن المجلس العسكري هو أكثر هذه القوى فاعلية في المشهد السياسي، ليس فقط لأن السلطة بيده، ولكن لأنه الطرف الوحيد من بين الأطراف الفاعلة على الساحة السياسية التي تسير خطواته وفق خطة مسبقة، فالعسكر ـ وهو أمر تقتضيه طبيعة عملهم ـ لا يتحركون إلا عبر خطة موضوعة ـ  وقد أثبتت أحداث السنة الماضية من الثورة ـ بما لا يدع للشك مجالا ـ أن المحور الرئيس لتلك الاستراتيجية العسكرية هو محاصرة الحالة الثورية، والحد من تداعيتها، والمحافظة على النظام المباركي قدر الاستطاعة.

والعامل الثالث الذي يزيد من فاعلية العسكر ومن تأثيرهم على مجريات الأمور هو تفتت القوى الثورية، وعدم أهلية كثير من المتصدرين منها لإدارة الصراع، إضافة إلى اكتفاء تلك القوى بردود الأفعال الناجم عن خلو جعبتهم من استراتيجية محددة وواضحة لإدارة تلك المرحلة الدقيقة من حياة الوطن، لذا نبصرهم ـ في أحيان كثيرة ـ الطرف المفعول به، لا الفاعل، وذلك منذ سقوط رأس النظام وإلى اليوم. إلى جانب هذا فقد استطاع المجلس العسكري استمالة القوى الأكبر حجما والأكثر تنظيما ـ على الساحة السياسية ـ إليه، ومن ثم شكلت هذه القوى غطاءا شعبيا لسياساته طوال الفترة السابقة.

وهنا يأتي دور الحديث عن هذه القوى ـ صاحبة الترتيب الثاني في درجة الفاعلية بالمشهد السياسي ـ وهي القوى الإسلامية، وقبل أن نورد أي تحليل لأداء هذا التيار لابد أولا أن نُفَصّل ما أجملناه في هذه الكلمة، القوى الإسلامية، إذ تنقسم إلى تيارين كبيرين، هما جماعة الإخوان المسلمين والتيار السلفي.

وإذا القينا الضوء على النهج الذي انتهجته الجماعة طوال الفترة الماضية، نستطيع أن نوجزه في عبارة يبدو أن الجماعة قد استبدلت بها شعارها التاريخي “الإسلام هو الحل”( والذي اختفى من الانتخابات الأخيرة)، إذ أضحت “البرجماتية هي الحل” لديها، فكان أن عقدت صفقة مع النظام أثناء الموجة الأولى للثورة (استمرارا لمسلسل عقد الصفقات مع نظام طالما وصفته بأنه نظام غير شرعي)، وهي الصفقة المعروفة التي أبرمت مع عمر سليمان، وكشفت عنها مصادر عدة ( أهمها القيادي السابق بجماعة الإخوان هيثم أبو خليل، والذي صدّر أسباب استقالته ـ من الجماعة ـ بحديثه عن تلك الصفقة)، ثم تلتها صفقة مع المجلس العسكري عمل الإخوان بموجبها ـ بما لهم من ثقل على الأرض ـ كغطاء شعبي لتوجهات المجلس وقراراته، فسياسة الجماعة كانت ـ وما تزال ـ تستهدف الحصول على أكبر قدر من المكاسب دون صدام مع السلطة، أو ليكن الصدام هو الورقة الأخيرة إن لم يكن منه بد.

أما عن التيار السلفي، فليس لدينا الكثير لنسوقه عنه، سوى الإشارة إلى أنه كان يعد السياسة من المحرمات التي لا ينبغي الاقتراب منها، وذلك قبل الثورة، وتماهى مع رأيه هذا أثناء الموجة الأولى للثورة، فلم يشارك ـ بها ـ مشاركة حقيقية، ليتصدر حديث رموزه ـ أثناء تلك الموجة ـ الرأي الفقهي القائل بعدم الخروج عن الحاكم وإن ظلم وإن فسق …..إلخ!.

لكننا فوجئنا به بعيد التنحي، يتراجع عن موقفه ذاك، ويقرر كثيرون ممن ينتمون إلى هذا التيار خوض العمل السياسي، ليشترك مع جماعة الإخوان في لعب ـ كما ذكرنا سابقا ـ دور الغطاء الشعبي لسياسات المجلس العسكري.

أما النخبة الليبرالية واليسارية والحركات الشبابية الثورية، وأنا أدمجها في حديثي لأنها متشابكة على أرض الواقع، (فكثير من الشباب انضم إلى تلك الأحزاب التي تقودها هذه النخبة، كذلك هناك الكثير منهم لا يزال يحتفظ بوجوده في الأطر الشبابية الثورية، إضافة إلى أن المواقف السياسية للطرفين متوافقة إلى حد كبير). وهي أيضا ـ في غالبيتها ـ الطرف الذي يتبنى الخط الثوري. هذه القوى مجتمعة هي أضعف حلقات المشهد السياسي، ولكي نعلل ضعف تأثيرها ذاك لابد أولا أن نعاود تقسيمها متناولين ـ في البداية ـ النخبة بمعزل عن الحركات والائتلافات الشبابية، مقدمين الأولى على الثانية، باعتبار أن النخبة هي الأكثر تأثيرا في العلاقة بين الطرفين، وبالتالي هي الأكثر فاعلية.

مما لا شك فيه أن هذه النخبة فشلت ـ إلى الآن ـ في إدارة المعركة مع المجلس العسكري، وهذا الفشل هو امتداد لفشلها ـ السابق ـ في إدارة صراعها مع الحزب اللاوطنى ونظامه، إذ عجزت تلك النخبة ـ على مدار عقود طويلة ـ عن أن تتقدم خطوة واحدة نحو هدفها المتمثل في التغيير، وكان سعيها تجاه تحقيق هذا الهدف قاصرا على بعض الفاعليات ـ والتي لم تكن ذات جدوى حقيقية ـ من قبيل تظاهرات السلالم، واحترافها تكوين الحركات المختلفة ( والتي لم تحمل حركة واحدة منها برنامج محدد وواضح لكيفية التغيير)، مصرفة جل وقتها في تسجيل المواقف على الفضائيات وفي صفحات الجرئد، مستسلمة ـ بذلك ـ لدور المغلوب على أمره، الذي فرضه عليها نظام مبارك.

 ثم كانت الثورة، فتعاملت هذه النخبة ـ أيضا ـ مع المجلس العسكري، بنفسية الرجل المهزوم ـ والتي ترسخت لديها عبر العقود الماضية ـ فاندفعت تمجد المجلس العسكري، وتشيد بدوره في حماية الثورة(1)!! ( وهذا في الفترة التي تلت التنحي مباشرة)، وتجاهلت حقيقة منطقية بسيطة، وهي أن هذا المجلس لا يمكن أن ينحاز لثورة على نظام مبارك، لأنه جزء لا يتجزأ من هذا النظام بفساده، وانعدام إيمانه بالديمقراطية، وانه تحت السيطرة بدرجة ما، (فمؤسسات الدولة جميعها بدءا من أصغر مجلس محلي لأصغر قرية من قرى مصر وصولا إلى أهم مؤسسة في الدولة، وهي المؤسسة العسكرية، عمل النظام على إحكام سيطرته عليها، وذلك بوضعه أهل الثقة والفاسدين على رأس تلك المؤسسات، وهو ما كان معروفا للكافة)، وللأسف الشديد انساق عدد كبير من القوى الشبابية الثورية ـ بعيد التنحي ـ وراء هذا الموقف، فكان منهم ومن العسكر ما سنذكره لاحقا.

إلى جانب ذلك لم ترق نخبتنا تلك ـ يوما ـ إلى مستوى الحدث (الثورة)، فحافظت على الطريقة التي اعتادت التعاطي بها ـ مع خلافاتها ـ فيما بينها، واستمرت معاركها ـ الصبيانية ـ على ذات المنوال الذي كان قائما قبل الثورة، وهو أمر لا يتطلب تدليل على صحته، فمشاهدة البرامج الحوارية وبرامج “التوك شو” تغنينا عن ذلك، لكن لا مانع أن نضرب مثال على تلك الطريقة الصبيانية في التعاطي مع الأحداث السياسية لتكون نموذجا واضحا على ما ندعيه.

قطعا مازلنا نتذكر أنه بعيد الاستفتاء (الموجه)، تململت النخبة من نتيجته وأعلنت عدم رضاها عليه، لكن بدلا من أن تكثف جهودها لكي تكون أكثر تأثيرا في المشهد السياسي ـ بالمرحلة المقبلة ـ من خلال تقوية الأطر التي تقودها، شط البعض (الجمعية الوطنية للتغيير) في موقفه، فأطلق دعوة لتجميع 15 مليون توقيع بهدف إسقاط نتيجة الاستفتاء، وجعل “الدستور أولا”، وانساقت وراء هذه الدعوة النخبوية حركات وائتلافات شبابية (ائتلاف واتحاد شباب الثورة، واتحاد شاب ماسبيرو، والجبهة الحرة للتغيير السلمي، وحركات وائتلافات أخرى)، وهو الأمر الذي فشلت هذه الحركات في تحقيقه، لكن المسألة ـ بداهة ـ لم تكن مرتبطة بفرصة النجاح أو الفشل في تجميع هذه التوقيعات!، فحتى لو نجحت تلك القوى في مساعها ذاك، فهل كان يُتوقع أن تجُب هذه التوقيعات نتيجة استفتاء رسمي، قامت به الدولة!!. إن هذا الموقف يعد نموذجا للطريقة التي اعتادت أن تُصَرف بها تلك النخبة وقتها وجهدها!.

أما عن الحركات والائتلافات الشبابية فنتيجة لعدم أهلية كثير من المتصدرين لقيادتها، فقد انساقت ـ دوما ـ وراء الآراء الجاهزة لهذه النخبة الفاشلة، وهو ما لمسناه منذ التنحي، إذ انساقت كثير من هذه الحركات لما سوقته النخبة من أن المجلس العسكري هو حامي حمى الثورة، ليَسْهُل على ذاك المجلس معانقة تلك الحركات الشبابية عناق الدببة، فاعتنى باستضافتهم في كل الحوارات التي أجراها مع القوى السياسية، كما احتفت بهم آلية العسكر الإعلامية احتفاءا بالغا، وأصرت على نسبة الثورة إليهم، لتكون ثورة شباب لا ثورة شعب!، واستسلم هؤلاء لهذا العناق فترة قصيرة، ثم أفاقوا ـ من استسلامهم ذاك ـ على سياسات تتجاهل ـ كليا ـ مطالب الثورة، فكانت الدعوة لمليونيات حاشدة ـ كوسيلة فاعلة للضغط في البداية ـ قابلها تراجع تكتيكي من جانب المجلس العسكري، وإنفاذه بعض المطالب بعد تفريغها من مضمونها، ساعيا إلى توثيق ارتباطه بالتيار الإسلامي، ليفصله عن القوى الثورية، وفي ذات الوقت يكون بمثابة الغطاء لسياساته في الشارع، وهو ما كان (وبناءا على ما سبق نستطيع القول بأن القوى الثورية أسهمت بنصيب غير منكور ـ بعيد التنحي ـ في صناعة الصورة الإيجابية للمجلس العسكري، التي ترسخت لدى الكثيرين، وأضحى من الصعوبة بمكان استبدالها بأخرى تجافي الأولى).  

إذا كانت هذه هي رؤيتنا للقوى الفاعلة في المشهد السياسي، فأين المخرج إذن؟

لا أعتقد أن تلك النخبة ـ وإن كان بينها رموز نكن لها كل التقدير والاحترام ـ يمكن أن تلعب ـ بناءا على ما ذكرنا ـ دورا إيجابيا في المرحلة المقبلة للثورة، وعليه فإن تعويلنا منصب على الحركات الشبابية (وهذا على اعتبار أن هذين الطرفين ـ فقط ـ هما الممانعين بقوة لمجمل سياسات المجلس العسكري التي تحمل العداء الصريح لكل ما ومن ينتسب للثورة)؛ أن يعالجوا أوجه القصور لديهم، فتنتظم خطواتهم وفق خطة عمل محددة وواضحة، وأن يسعوا بكامل طاقاتهم إلى توحيد قواهم وحركاتهم، وذلك في مشروع سياسي، وأن يكفوا عن تبني تلك الفكرة الخاطئة التي يعتقد الكثير منهم فيها؛ أن استكمال مطالب الثورة لن يكون إلا عبر الأطر الثورية (الحركات والائتلافات)، وأن لا حاجة لمشروع سياسي تنتظم فيه جموعهم!!، ولعل انتخابات مجلس الشعب ـ التي أجريت منذ فترة قصيرة ـ قد أثبتت خطأ وجهة النظر تلك (فللأسف الشديد القوى التي احتلت المراكز الثلاث الأولى في البرلمان قوى غير ثورية!).

وأن تبادر هذه الحركات الشابة إلى محاصرة تلك النماذج التي طفت على سطحها، وأضحت عبئا ثقيلا عليها، فلم تعد تقوم بواجباتها، وباتت الحركات التي تنتمي إليها هذه القيادات ـ في نظرها ـ ليست سوى مجرد كيانات تتحدث باسمها في وسائل الإعلام، وأصبحت هذه الأخيرة غاية وليست وسيلة (ولعل هذه الآفة قد انتقلت إليهم ـ أيضا ـ من النخبة).

وأخيرا رغم ما يلف الصورة ـ التي عرضناها ـ من قتامة فلن نكون أبدا متكلفين إذا ادعينا التفاؤل؛ ذلك أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ وعدنا إن صدقناه أن يصدقنا، لكن الصدق في حالتنا ـ وبدرجة كبيرة ـ لا يأتي من داخل الصورة المذكورة أعلاه، إنما مرجعه تلك الجماهير غير المسيسة، التي ما إن استدعيت لنصرة مطالب الثورة العادلة أبصرناها تلبي ـ وبأعداد غفيرة ـ النداء. فنحن بإزاء مجتمع قد استيقظ، وللأبد.

(1) مسألة أن المجلس العسكري حمى الثورة، وجنبنا المسار الذي صارت إليه ليبيا وسوريا هي خرافة لا أصل لها، فهل كان يملك المجلس ـ عمليا ـ  خيارا آخرا؟! ،وذلك أمام الملايين الغاضبة (14 مليون) التي غصت بهم شوارع مصر وميادينها، ولم يثنيهم عن الاستمرار في الإعلان عن غضبهم ذاك كل ما اصطنعه النظام لردعهم؛ مليون ونصف المليون جندي مركزي، اتهامات بالعمالة، وخطابات خبيثة تهدف لابتزاز عواطف الجماهير، تمطر بها سماء إعلام مضلل وخسيس، وقناصة وبلطجية مأجورون لا يراعون حرمة، ولا تأخذهم بأحد شفقة ولا رحمة ــ كل هذا لم يجد نفعا. وإذا فرضنا جدلا أن كان المجلس قد تجاهل روح التحدي والإصرار تلك التي ركعت أمامها جيوش النظام السابق الأمنية والإعلامية معلنة استسلامها ــ آملا في أن ينجح هو فيما فشل فيه أولئك، ومن ثم أصدر أمره بالتصدي لجموع الشعب الثائرة، فهل كان من المتوقع أن يطيع ضباط جيشنا هذا الأمر، ويتجاهلوا عقيدتهم القتالية التي تحول بينهم وبين تصويب سلاحهم إلى مدني أعزل؟!!. هل كان من المتوقع أن يطيع ضباط جيشنا أمرا كهذا، وكل منهم مدرك أنه قد يكون بين الثوار أخيه أو أخته أو ابنه أو ابنته أو…….أو……….؟! . وإذا ما افترضنا أن ذلك كان ممكن الحدوث، وأن بعضهم كان ليطيع الأمر الصادر إليه، فبالقطع كان هناك الكثير منهم سيرفض تنفيذ أمرا كهذا، لينجم عن ذلك انقسام داخل الجيش، وتقوم على إثره حرب أهلية، ويكون مَثل المجلس العسكري كمثل البطل اليهودي شمشون الذي هدم المعبد عليه وعلى أعدائه، بيد أن خيار شمشون  كان ـ عمليا ـ خيارا منطقيا، إذ فقد بصره، وأصبح معرضا للهلاك فاختار أن يهلك ـ ما دام هلاكه محتوما ـ هو وخصومه، بينما كان إقدام المجلس على خيار كهذا حماقة ستذهب بريحهم، وستورد البلاد مورد الأخطار. كذلك فإن القوى الدولية ـ وعلى رأسها الولايات المتحدة، ومدى نفوذها على الجيش معلوم للكافة ـ ما كانت لتسمح بولوج دولة  بحجم مصر وثقلها الإقليمي ـ حماية لمصالحها في المنطقة ـ  إلى موطن اضطرابات لم يكن ليعلم غيره سبحانه  بميقات خروجها منه.

محمد السيد الطناوي

 
أضف تعليق

Posted by في فيفري 2, 2012 بوصة مقالات