RSS

الإنسان الأعلى

توطئة

راقبته مذ مجيئه إليها، كانت هيئته لا تختلف كثيرًا عن هيئة غيره من بني جنسه، بيد أنَّها شخصته، فاطنةً إلى تميزه عنهم. تتبعت حركاته وسكناته، ومع كل يوم يمر، وكل فعل يقدم عليه، يخفق قلبها بقوة، ويزداد خفقانه بتوالي الأيام، وتتابع الأفعال.

إنَّه هو سيدها الذي أُنبئت عنه.

وألقي في روعها أنَّ له علاماتٍ ثلاث تعرفه بها:

يسير وحده مسرع الخطى في القفار المهجورة. تميز وقع أقدامه دون سواه. لا يستهويه شيء أشد من تسلق المرتفعات.

أما العلامة الأولى فمثُلت أمامها بعد حين، إذ أبصرت من كانوا يحيطونه ملازمين له في المسير ـ على قلتهم ـ يعودون أدراجهم الواحد تلو الآخر، فمنهم من سلبته الندَّاهة  لُبَّه فسار مسحورًا إليها، لتلقمه غير مأسوف عليه، ومنهم من أسرته لعنةٌ قديمةٌ قدم وجوده في العالم، ظنَّ أنَّها قد رُفعت عنه، فإن هي إلا غفلة منه حتى التبسته مجددًا لتخور قواه، ويسقط من فوره، وما نال كل هذا من عزيمة ذاك المتفرد في شيء .

أما العلامة الثانية فما احتاجت إرهاف السمع حتى تستبينها، فكأنَّ خطواته تستنطق الأرض التي يسير عليها، فتصدر عنها آهات إعجاب وخضوع.

 

وشخصت مشدوهةً إليه، ترقب صدق ما أنبئت عنه في الثالثة، ها هو يعتلي المرتفعات الشاهقة، ليرتقي منها المسالك الأكثر خطورة، غير آبهٍ  لعواقب تترصده، يهتاجه في صعوده شوق مَلَكَ عليه لُبَّه إلى الذروة العالية تلك التي شارفت أن تعتلي السحاب، وتبلغ مسارح النجوم.

وما هي إلا درجة يصعدها حتى يتهيأ خطيبًا لهؤلاء الذين يسيرون في السفح متمايلين متخبطين كأنهم سكارى وما هم بسكارى، أن هلموا إليَّ فما أهديكم إلا علو المُقام، ملاطفًا متوددًا تارةً، ومنذرًا مرعدًا تارة أخرى، غير أنَّ كلماته بذرت الرعب، في كثير منهم، من ذوي القلوب الخائرة، فما أبصروها غير قذائف يمتزج فيها النار بالنور، فهالهم منظرُها العجيب، وذعروا من فعلها، إذ تهوي على الأفئدة فتمحق العليل منها، وتمد ـ فقط ـ القلة من ذوات البأس بطاقة لا ينطفئ أوارها تصحبها حتى المستقر الأخير.

ما هي إلا درجة يصعدها حتى يتهيَّأ خطيبًا لهؤلاء الذين يسيرون في السفح متمايلين متخبطين كأنَّهم سكارى وما هم بسكارى، مبشرًا إياهم إن اتبعوه أن يحلق بهم إلى أعالي لم يخبُرها أحد قبلهم، لتبرق تلكم بأفكارهم وترعد بأفعالهم، ويظللهم غمامها دون غيرهم، فتقيلهم من قيظ الدنايا، وتمطر عليهم غبطةً وحبورًا؛ لتسعد أرواحهم بذلك إلى أبد الآبدين؛ ويتبع بشارته تلك بصاخة إنذارٍ ووعيدٍ، أن حاذروا مسالك جللها الظلام، تنتهي بالهاوية، تلك الفاغرة فاها في شوق لالتهام الآمال والمعاني؛ لتشقى الأرواح بعدها إلى أبد الآبدين.

***

إنَّ صورة الإنسان الأعلى المرتسمة ملامحه على صفحات الفصول التالية لا تعبر بأي حال من الأحوال عن تصور لكائن ميتافيزيقي يحلق في ذات السموات التي حلقت فيها أفكار لمفكرين من أمثال ابن عربي والجيلي وغيرهما من أقطاب الصوفية عندما حدثتهم نفوسهم بحديث “الإنسان الكامل” فأذاعوه في الناس؛ ولا هو بالإنسان مدعي الألوهية الذي بشر به نيتشه حينما دعا بدعوة “الإنسان الأعلى“.

الإنسان الأعلى ـ هنا ـ إن هو إلا بشري يصبو لأن يرقى أعلى مراتب الكمال، تُحلِّق به – في سمواته – نفسٌ ثائرةٌ وثَّابة ٌـ أبدًا ـ للسمو، نعم قد تتعثر خطاه أثناء المسير في عيوب لا يخلو منها، مثله في ذلك مثل كل بني جنسه، غير أنَّ ثوريته ـ وهي متجددة علي الدوام ـ  ما فتئت تغالب تلك العيوب في نفسه حتى غلبتها؛ ليقف بذلك تعريف أرسطو له ـ أنَّه حيوان ناطق ـ  خَجِلاً عاجزًا عن مجاراته، ولا غرو، فهو وإن استقت طبيعته من ذات النبع الأرضي ـ لحيوان أرسطو الناطق ـ غير أنَّ روحه قد وطَّدت نسبها بالملأ الأعلى فانتسبت إليه، ووهنت الصلة بينها وبين أي رحم ٍآخر.

إنَّ القلم عندما سطر هذه السطور عن الإنسان الأعلى لم يكن يسكن عقل صاحبه ووجدانه غير غرضٍ واحدٍ، الخلاص لمجتمعات هتك الاستبداد سترها، و وطِئ شرفها، وخلى بينها وبين الفقر والشقاء والتخلف سبيلاً؛ وأحال أناسها إلى عبيد، ففارقتهم قيمهم، فلا عزة، ولا كرامة، ولا حرية، ولا شجاعة، ولا إيجابية منتجة، بل نفاق، ورياء، وتذلل، ومداهنة، وسلبية آثمة، ولم يقنع ذاك المتجبر بذلك، بل سارع إلى  إفراغ حياتهم في قسوة وصلف من كل حلم أو معنى، لينتهي إلى صبغ حاضرهم بالتعاسة والشقاء، ومستقبلهم باليأس والقنوط  وإنَّ أبناء تلك المجتمعات الخاضعة المستسلمة للاستبداد لهم أشبه ما يكونون بأولئك الأشقياء الذين قذف بهم الوجود إلى الحياة من استزراع نطفة رجل همجي مفترس في رحم امرأة منكسرة ذليلة كارهة، فمثل هؤلاء لا يكونون إلا مسوخًا بشرية كأبيهم، أو عبيدًا أذلاء كأمهم.

وما من شك أن تلك الصورة المفزعة لتطارد مجتمعاتنا في إصرار ساعيةً إلى تلبُّسها، عازمة على وأد أية إمكانية تحول دون نجاح سعيها ذاك، مندفعةً إليها اندفاع المطرقة فوق الحجر، فلا يتوقف طرقها حتى يتفتت الحجر ؛ ليصبح هباءً منثورًا، وما ينحسر ذاك المصير عن مجتمعاتنا إلا بانطلاق كشافيها في الآفاق ليقتفوا أثر الإنسان الأعلى، إذ كان – دومًا – سلاحًا ناجعًا في الذود عن الحيض ضد الاستبداد والطغيان، وطوق نجاة من الوقوع في براثن العدمية واللامعنى، ومبشرًا وداعيًا لكل ثورة متطلعة إلى التغيير والنهضة.

ونهايةً، لا يدعي رب الخيال لتلك الصورة أنَّها ربيبة من ربيباته الخُلّص، كذلك يتواضع الواقع عن إلحاق نسبها به، إنَّها مزيج مما كان، وما ينبغي أن يكون.

 

 

أضف تعليق